العربي الجديد
مئة عام مرّت على "معاهدة لوزان" التي وقّعها الأتراك مع القوى الأوروبية، ليعلَن انتهاءُ واحدة من آخر الإمبراطوريات في التاريخ؛ السلطنة العثمانية، وتتأسس الجمهورية التركية الحديثة، وتتكرّس خرائط المنطقة التي وقعت تحت الاستعمارَين البريطاني والفرنسي ضمن كيانات سياسية مجزّأة.
حُرمت الولايات العربية التي كانت تتبع العثمانيين حتى هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) تقريرَ مصيرها، وفق المبادئ التي نادت بها "عصبة الأمم" آنذاك. ورغم أنها نالت استقلالها بعد عقود، إلا أن بلداناً عدة منها ستشهد حروباً أهلية وستعيش أُخرى انهيارات اقتصادية في ظلّ أنظمة استبدادية، لكن الأخطر من ذلك تَمثّل بانتزاع فلسطين لتبقى تحت الاحتلال الاستعماري الصهيوني حتى اليوم.
لم يتواجه العرب والأتراك في حوارات جدّية لمراجعة الماضي ومعاينة حاضرهم ومستقبلهم طوال الأعوام الماضية. لذلك، تكتسب الندوة العلمية الدولية "نحو شرق أوسط آمن" التي عُقدت الثلاثاء الماضي في عمّان أهميتها، وإن حمل عنوانها إشكالات تتصل بالتسمية الاستعمارية للمنطقة كتعبير عن مركزية أوروبية تجاه شعوبها.
الحوار، الذي يفترض أن يناقش المستقبل، استُغرق جلّه في الماضي، حيث تفاصيله الشائكة وتداعياته الثقيلة تحتاج نقاشاً مفتوحاً لا تحلّه ندوة هنا أو هناك. وافتتح الباحث التركي ومدير "مركز أورسان"، أحمد أويصال، الجلسة الأولى بورقة عنونها بـ"موقف الإعلام القومي من المنطقة العربية عند حرب الاستقلال ضد الاحتلال الغربي في الأناضول"، مستعرضاً وثائق عديدة تشير إلى دعم الصحف العثمانية في تلك المرحلة للشعوب العربية المحتلة في أن تقرّر مصيرها، مقابل دعم هذه الشعوب لمقاومة أتاتورك في تحرير الأراضي التركية.
توقّف أويصال عند شواهد على التعاطف العربي والإسلامي مع الأتراك، خصوصاً بعد الانتصار على اليونان عام 1922، حيث وقعت مناوشات بين اليونانيين والمصريين في الإسكندرية، وكتَب أحمد شوقي قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها: "الله أكبرُ كم في الفتح من عَجَبِ... يا خالدَ التُّرك جَدِّد خالدَ العربِ"، وانهالت رسائل التهنئة من قبل شخصيات عربية، وإن لم تكن تميّز بين الدولة العثمانية في إسطنبول والحركة الوطنية في أنقرة، بحسب الباحث.
إحياء الميراث العثماني
أمّا المؤرخ العراقي سيّار الجميل، فقدّم في ورقته "مؤتمر فرساي 1919 ولواحقه، صناعة لوزان الثانية 1923، القطيعة التاريخية الكبرى للتكوين الموازي للشرق الأوسط المعاصر"، عند التنظيمات (القوانين الإصلاحية العثمانية التي صدرت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر)، لكونها أنقذت الدولة من السقوط قبل مئة عام من انهيارها، وأتت بروح جديدة للحكم، لكنها انتهت مع ارتكاب "حزب الاتحاد والترقّي" أكبر أخطائه في دخول الحرب العالمية الأولى، لينتج منها إزالة الدولة العثمانية -التي دفعت أثماناً صعبة لم تترتّب مثلها على ألمانيا شريكتها في الهزيمة- وخلق كيانات سياسية جديدة لم يكن لها وجود على مدار قرون.
وأوضح المتحدث أن القرن العشرين وُلد بعد حروب معقدة آلت إلى أن تحدّد الإرادة الدولية مصير المنطقة جيوتاريخياً، فقد كانت هذه المنطقة عثمانية تمتلك تاريخاً مشتركاً وموازياً لتتحكم القطيعة التاريخية بمستقبلها دولياً، بدءاً بتركيا وانتهاءً ببلداننا العربية بكل ما فيها من شعوب ومجتمعات.
وخلص الجميل إلى أن الشرق الأوسط بحاجة إلى تنظيمات جديدة في القرن الحادي والعشرين تحاكي تلك القوانين المتطورة التي سعى خلالها العثمانيون لإصلاح سلطنتهم قبل نحو قرنين، وكذلك الاستفادة من التجربة العثمانية في التعامل مع أوروبا، مستعيداً الدور الذي لعبه سليمان القانوني، في رسم علاقات تستند إلى تفوّق الأستانة، بالإضافة إلى ضرورة الاستفادة من الأرشيف العثماني الذي لا يقلّ أهمية عن الأرشيف البريطاني، ويستحق مزيداً من الدراسة.
وفي ورقتهما "حرب التحرير التركية والاستقلال وتأسيس الجمهورية"، قرأ الباحثان وليد العريض وعبد الرحمن الجدعان حالة التراجع في الدولة العثمانية منذ عام 1774، وصولاً إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909، كما وردت في المصادر العربية خلال تلك الفترة، بدءاً بتلك المتعلقة بالتبذير المالي وتعاظم الامتيازات الأجنبية وهيمنة الوزراء على السلطة وخيانة بعضهم للسلاطين و"تدخّل النساء في شؤون الحكم"، وصولاً إلى هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأُولى، وهي عوامل دفعت الأتراك إلى إعلان حرب التحرير لإنهاء الاحتلال وكذلك نظام السلطنة.
دفعت هذه الأسباب إلى اندلاع ثورة التحرير التي تمايزت عن الثورات التي شهدتها بلدان عربية محتلّة حينئذ، بوجود قيادة مثل مصطفى كمال أتاتورك ودوره الحاسم في نجاحها، وإيمان الحركة بالهدف المنشود، وبألّا قضية تشغلهم سوى تحرير بلادهم، حيث اندلع القتال والجهاد العسكري على جميع الجهات، وأُقيمت المؤتمرات الوطنية التي اتخذت قرارات لم ينفرد أتاتورك باتخاذها، بالإضافة إلى الدعم الشعبي الكبير، خصوصاً عندما احتلّ اليونانيون أزمير.
وخلص الباحثان إلى عدم وضوح الرؤى العربية والإسلامية حيال ثورة التحرير في حينها، والإجراءات التي اتُّخِذَت بعد إعلان الجمهورية، وهو ما يستحقّ اليوم تعميق الدراسات العربية التركية، وزيادة التواصل التركي – العربي من خلال المؤتمرات والندوات لتأسيس شرق أوسط جديد يكون للعرب والأتراك فيه دور أكبر بعد مئة عام من معاهدة لوزان الثانية، والبعد عن تقلّب العلاقات الإقليمية بين المد والجزر، وارتقائها إلى حدّ المصارحة والمكاشفة.
أتاتورك وثورة الريف المغربي
المغرب، البلد الذي لم يخضع لسلطة العثمانيين طوال فترة حكمهم، كان جزءاً من محيطه العربي والإسلامي في تلك اللحظة الفارقة، كما لفت الباحث والأكاديمي المغربي عبد الحيّ الخيلي في ورقة بعنوان "حركة التحرير التركية ومقاومة الريف المغربية 1919 - 1926"، التي استقرأ فيها مجموعة من الوثائق التركية والمغربية، وكذلك رسائل ووثائق حذّرت فيها سلطات الاستعمار الفرنسي في المغرب من التعاون بين المقاومتين التركية بقيادة أتاتورك والمغربية بزعامة عبد الكريم الخطابي.
واستعرض الخيلي مظاهر عديدة تُدلّل على تلك الصلات، ومنها الاحتفالات في شوارع طنجة بانتصارات أتاتورك في لحظة عرفت ثورة الريف انتصارات موازية، كما سَمّى كثير من المغاربة أبناءهم مصطفى كمال، ونظم العديد من الشعراء قصائد تمتدح المقاومة التركية، ويتّضح من الأرشيف العثماني أن جريدتَي "الوقت" و"جمهورية" التركيتين نشرتا مقالات تدعم ثورة الريف المغربي ووصفه بالريف المستقل، لكن برزت تحفّظات من قبل المغاربة بعد إلغاء السلطنة العثمانية عام 1926.
واستند الخيلي إلى وثائق الأرشيف في كل من تركيا وفرنسا والمغرب، ومنها وثائق فترة الدولة العثمانية ووثائق فترة الجمهورية التركية الموجودة في "رئاسة محفوظات الدولة" بإسطنبول، والوثائق المغربية الموجودة في أرشيف المغرب بالرباط، وأيضاً الوثائق الفرنسية المحفوظة بمدينة نانت، التي تشير إلى ذهاب عددٍ من الأتراك للقتال في الريف المغربي مبعوثين من حكومة أتاتورك، كذلك أُرسلت مساعدات مغربية من ضمن الأموال التي جُمعت في شمال أفريقيا دعماً لثورة التحرير التركية.
ردة فعل الدول الأوروبية على هذا التعاون، بحسب الوثائق، تمثّلت بالاحتجاج على التعاون بين الجانبين التركي والمغربي، متذرّعة باتفاقية الصلح بين تركيا وفرنسا في "معاهدة لوزان" التي نصّت على قطْع صلة شمال أفريقيا، مثل حال بقية الولايات العربية التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية بتركيا، ما اضطر الأخيرة إلى تقييد دعمها واتخاذه شكلاً سرياً يعتمد الحيطة والحذر، كما تبيّن بعد ذلك من خلال استمرار الدفاع التركي عن استقلال المغرب في أروقة الأمم المتحدة.
من جهتها، ناقشت الباحثة المصرية ماجدة مخلوف في ورقتها "المفاوضات التركية اليونانية قبيل اتفاقية لوزان 1923 من خلال المضابط الرسمية"، مضابط جلسات النواب العثماني ما بين عامَيْ 1920 – 1923، التي كُشف عنها في ثلاثة مجلدات صدرت هذا العام، وهي توضح جوانب خاصة بالمفاوضات التركية وموقف الدول الكبرى، وبريطانيا على وجه الخصوص، والأدوات السياسية التي استخدمها الطرفان اليوناني والتركي لتدعيم موقفه في المفاوضات، وبيان موقف الحلفاء منها، ومدى توافق القرارات التي خرجت بها الاتفاقية مع هذه المفاوضات.
وتعكس المضابط وجود معارضة قادها حسين عوني ضدّ توقيع الاتفاقية، كما لم يرض كثير من أعضاء البرلمان بأداء الوفد التركي المفاوض، حيث يشير موقفهم إلى أن العديد من القضايا كانت محسومة قبل مؤتمر لوزان ومتّفقاً عليها، وقد جرت اتصالات بين أتاتورك والفرنسيين، خصوصاً أن الهدنة وإن كانت تبدو بين تركيا واليونان، فإنها في الحقيقة بين تركيا ودول الحلفاء.
فلسطين بين وعد بلفور ومعاهدة لوزان
في ختام الجلسة الأُولى، أضاء الباحث الفلسطيني وليد سالم في ورقته، "إحلال مواطنة مكان أُخرى ودولة مكان أُخرى.. حكاية سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية قبل وبعد معاهدة لوزان"، على واحدة من أخطر النتائج التي تمخّضت عنها "لوزان"، مبيناً أن ظروف الحرب العالمية الأُولى وُظّفت لحسم مسألة أن فلسطين وطنٌ ليس لأهله.
التفاصيل التي تستدعي التأمل والتدقيق تشير إلى أن الدولة التركية الحديثة الناشئة لم تسعَ لتصحيح وعد بلفور في اتفاقية لوزان، لكن بالمقابل هناك نقاط في الاتفاقية لا يزال ممكناً استخدامها لصالح الحق الفلسطيني، وتتيح إعادة المطالَبة بالمواطنة الفلسطينية وتعزيز التعاون التركي العربي.
العودة إلى "لوزان" بعد مئة عام، ومحاولة تصحيح الأخطاء التي سبّبتها، هي خلاصة الورقة، حيث يشير سالم إلى أن هذه المعاهدة جاءت لتتضمن السلخ الكامل والنهائي للولايات التي كانت خاضعة للدولة العثمانية عن الأخيرة، ما هيّأ لصدور قانون الجنسية الفلسطينية عن سلطة الانتداب البريطانية عام 1925، وتعديلاته لعام 1931، والذي شرعن "حق" اليهود "المهاجرين" إلى فلسطين في الحصول على الجنسية الفلسطينية، وسهّل إجراءاتها، بحث يكفي أن تمضي سنتان على وجود الشخص في فلسطين بعد تقديمه لطلب التجنّس من أجل الحصول على الجنسية.
ستّ أوراق تضمّنتها الجلسة استدعت تعقيباً من المؤرخ الأردني علي محافظة الذي أشار، بالعودة إلى الوثائق التركية لا غيرها، إلى أن عصمت إينونو الذي ترأس الوفد التركي إلى لوزان (وأصبح ثاني رئيس للجمهورية التركية بعد رحيل أتاتورك) تخلّى خلال المفاوضات عن أية مَطالب بالأراضي العربية، وأن تركيا رفضت قرار عصبة الأمم بخصوص ضمّ الموصل للعراق، مطالبة ببسط سيادتها على المدينة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإسكندرون السوري الذي حصلت عليه تركيا باتفاق مع فرنسا عام 1939.
وبناءً على ذلك، يعتبر المتحدث أن البحث التاريخي يحتاج إلى صراحة وجرأة في قول الحقائق التي عاشها الجانبان، من أجل طرح سؤال العلاقة العربية التركية في هذه اللحظة.
نقاط خلاف عالقة
في الجلسة الثانية، رأى الباحث التركي زكريا قورشون في ورقته "تركيا والعالم العربي بعد معاهدة لوزان"، أنه عندما أدركت الدول الغازية أن مصير حركة النضال القومي في تركيا هو النجاح، قبلت بعقد مؤتمر بشرط عدم التعامل مع الولايات العربية؛ معادلة صعبة شكّلت خلالها الدول الغربية العلاقات بين الأتراك والعرب رغماً عن إرادة الطرفين، رغم بقاء اتصالات كثيرة بين التجار والصحافيين العرب مع إسطنبول، كذلك دافعت الصحافة التركية عن أهمية هذه العلاقات.
إلغاء السلطنة مثّل صدمة للمجتمعات العربية، بحسب الورقة، ويبدو أن الجانب التركي أراد التخلّص من المسؤولية عن حقوقه السيادية في عدد من الدول العربية، سواء المحتلّة سابقاً مثل مصر وليبيا، أو تلك التي احتُلّت بعد الحرب العالمية الأُولى، وكان الاعتقاد السائد أن "الأمور حُلّت بالقوة" وهو ما وقع في هوى التيار القومي التركي آنذاك الذي انحاز لهذا التوجّه.
وبمثابة ردّ على مداخلة محافظة حول الموصل والإسكندرون، اعتبر قورشون أن "لوزان" تركت نقاط توتّر كان من شأنها تأجيج الصراع بين تركيا وجيرانها العرب، مثل ولاية الموصل التي كان فيها الجيش العثماني في أثناء الهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأُولى، لكن الإنكليز أسرعوا إلى احتلالها، وهي بذلك أراضٍ تركية، لكن أنقرة قبلت ضمّها للعراق بعد عام 1925 من أجل "المحافظة على السلام في الإقليم"، كذلك فإن "لوزان" تركت ثلاث مناطق خارج الاتفاق منها الإسكندرون التي لم تَحسم أمرها إلا في نهاية الثلاثينيات، وكانت تركيا مضطرة إلى رسم علاقتها مع العرب تحت تأثير معاهدة لوزان، من خلال الحفاظ على علاقتها مع الغرب ومحاولة إنتاج سياسة مستقلة، حيث حرصت على إقامة علاقة مع سورية والعراق، حيث أقامت معهما علاقات ثنائية في حماية الحدود والزراعة وغيرهما.
من جهته، تناول الباحث اللبناني خالد الجندي في ورقته، "قراءة نقدية تاريخية لبنود الأقليات في معاهدة لوزان الثانية"، مسألة لطالما اتخذتها القوى الأوروبية ذريعة للضغط على الدولة العثمانية منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، متمثّلة بحقوق الأقليات الدينية، واستطاعت من خلالها فرض امتيازات لهذه الأقليات داخل السلطنة عام 1856.
تطرح الورقة سؤالاً رئيساً: هل كانت الأقليات الدينية، وتحديداً المسيحية، مضطهَدة في الدولة العثمانية؟ وتعقد مقارنة مع دول البلقان، وخصوصاً بلغاريا وصربيا والجبل الأسود، التي وقّعت في "لوزان" على احترام الأقليات المسلمة، موضّحاً أن الاقليات تمتعت بكامل حقوقها وفق القانون العثماني وأُتيح لها ممارسة شعائرها الدينية، وتساوت مع المسلمين أمام القانون، وتولّى "أهل الذمّة" -بحسب تسميتهم آنذاك- مناصب رفيعة كالوزارة، وكان نصف عدد أعضاء "مجلس المبعوثان" (البرلمان العثماني) في دورته الأولى من المسيحيين، وغيرها من الشواهد. مقابل ذلك، حرمت بلغاريا وصربيا واليونان المسلمين جميع الوظائف فيها، وصادرت أملاكهم وسعت بكل الوسائل لتهجيرهم.
ديون الدولة العثمانية
الباحثة الأردنية هند أبو الشعر تطرّقت في ورقتها، "الديون العثمانية المفروضة على الأراضي العربية: إمارة شرق الأردن نموذجاً"، إلى مسألة يغيب الاهتمام بها بسبب هيمنة البعد السياسي على العلاقة بين الأتراك والعرب، حيث ضم القسم الأول من "معاهد لوزان" أحكام (الدين العام العثماني)، ما بين المادة 46 – 57 من المعاهدة، وأُلحق بها جدول الدين العام العثماني قبل الحرب؛ أي قبل سنة 1914.
ونبّهت إلى أن هذه الأحكام طاولت الدول العربية التي أُنشئت حديثاً في آسيا، وفُصلَت أراضيها عن الإمبراطورية العثمانية، وأشارت المادة الـ 50 من المعاهدة إلى توزيع القروض التي تعاقدت عليها الإمبراطورية العثمانية بين 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1912 و1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914، إلى دفع المبالغ المترتبة على تلك الدول إلى "مجلس الديون" الذي يتولّى دفعها إلى الدائنين، وهُم الدول الأوروبية.
واستناداً إلى تقرير أديب وهبة، مندوب حكومة الإمارة إلى "مؤتمر الديون العمومية العثمانية" المنعقد في الأستانة بعد توقيع "معاهدة لوزان"، ورغم اعتراضه على إضافة ديون قضاءَي بصرى ودرعا (الواقعين داخل سورية الحالية) وكذلك على فرض ديون على إمارة شرق الأردن التي تأسست عام 1921 عن فترة تسبق إنشاءها من دون حصول الإمارة على إيرادات سكّة الحجاز التي تمرّ في الأراضي الأردنية في تلك الفترة، إلا أنّ حكومة شرق الأردن تسلّمت جدول ديونها، وجرى تسديدها بواقع 590 ليرة سنوياً لمدة عشرين عاماً.
مقاربة بلقانية
"تبادُل السكّان حسب معاهدة لوزان بين تركيا واليونان وأثره على الوجود المسلم في سالونيك ويانينا" عنوان ورقة المؤرخ والباحث الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، الذي تقصّى جانباً مؤلماً لدى المسلمين في البلقان، الذين كانوا يشكّلون نصف السكّان فيه حتى عام 1912، عبر إعادة تغيير البنية السكّانية سواء في البلقان أو تركيا، وجرى الانتقال من التعددية الإثنية والثقافية والدينية في تركيا العثمانية إلى الدولة القومية التي تصهر بعض الأقليات في بوتقتها، وتأتي هذه المئوية في وقت يجري فيه تغيير سكّاني في المنطقة بفعل الأوضاع في سورية، مع توزّع ملايين اللاجئين في دول المنطقة وانخفاض عدد المسيحيين فيها أيضاً.
وأوضحت الورقة أنه رغم أن "معاهدة لوزان ترتبط في الذهن بنهج غير مسبوق في المعاهدات والعلاقات الدولية (التبادل القسري للسكّان)، إلّا أن هذا الأمر لم يرِد إلا في البند قبل الأخير (142) في المعاهدة التي أقرت في بنودها الأُخرى حدود تركيا الحالية (باستثناء لواء إسكندرون) وتركة الدولة العثمانية وتصفية ديونها وغير ذلك.
وأشار الأرناؤوط إلى أنه في حرب البلقان شنّت أربع دول (اليونان وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود) حرباً خاطفة على الدولة العثمانية في تشرين الأول/ أكتوبر 1912 بروح استردادية أيضاً تحت شعار "تحرير الأخوة الأرثوذكس" أدت إلى خلخلة الوجود المسلم في جنوب البلقان، فحسب أدقّ المعطيات حول عدد ضحايا التطهير العرقي للمسلمين، يبرز أن عدد من قُتل وصل إلى 623,408 مسلمين، وأن عدد من هُجّر وصل إلى 812,771 مسلماً، منهم 3181 وصلوا إلى ولايتَي حلب وسورية.
ومع هزيمة الجيش اليوناني وانسحابه بعد معركة سقاريا عام 1922، ودعوة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مصطفى كمال للتفاوض حول هدنة، جرى التوصل إلى هدنة مودانيا في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1922، وبدأت بعدها المفاوضات في لوزان حول معاهدة الصلح بين حكومتَي أنقرة وأثينا التي امتدت حتى توقيع معاهدة لوزان في 24 تموز/ يوليو 1923. ولكن الوضع على الأرض بين السكان الأتراك واليونانيين كان يزداد توتراً نتيجة لما خلّفه التوغل العسكري اليوناني في الأناضول من استقطاب للسكان اليونانيين والمسيحيين ضد الحكم العثماني خلال فترة الاحتلال اليوناني وردّ فعل السكان الأتراك والمسلمين عموماً ضد اليونانيين والمسيحيين الذين أيدوا أو تعاونوا مع الاحتلال اليوناني، وهو ما أدى إلى انتشار أعمال العنف بين المسلمين والمسيحيين، سواء في الأناضول أو في اليونان، الأمر الذي دفع إلى طرح حلّ التبادل القسري للسكّان أممياً، بحسب الأرناؤوط.
وخلص المتحدث إلى وجود مقاربات مختلفة حول التبادل القسري في الأدبيات التركية واليونانية والألبانية، التي لا تزال ترى بعض الأشجار التي تعنيها ولا ترى الغابة ككل، على الرغم من مرور مئة سنة، بينما نجد المقاربات الأكاديمية المتأخّرة تسلّم بالجوانب السلبية منها، ولكنها تقرّ بكونها "حالت دون حدوث إفناء شامل (جنوسايد) للمسيحيين الأرثوذكس في آسيا الصغرى".
مستقبل لم ينجُ من الماضي بعد
أثارت ورقة الباحث الأردني وليد عبد الحيّ التي عنونَها بـ"مستقبل اتفاقية لوزان بعد قرن على توقيعها" حفيظة المشاركين الأتراك في الندوة، تتعلّق باستنتاجاته التي توصَّل إليها بعد رصد جملة مؤشرات في الواقع التركي، ومنها الاستقرار السياسي الذي يأتي في وضعية سالبة، لكنه يتحسن بشكل بطيء، وكذلك الديمقراطية التي تتراجع إلى ما دون الوسط، والعسكرة، ومعدل دخل الفرد الذي يميل للتراجع في اتجاهه العام نتيجة التضخم وتراجع سعر الليرة التركية، إلخ، وهو ما يجعل تركيا تحتل المرتبة الـ49 عالمياً.
ورأى عبد الحيّ أن اتفاقية لوزان التي نشأت على أساسها جمهورية تركيا المعاصرة، لم تعد قائمة من الناحية الفعلية، نظراً للتغيرات المختلفة في الواقع المحلي والإقليمي والدولي الذي أنشأ هذه المعاهدة، وبالنظر إلى الذي نتج من "معاهدة مونترو" 1936، فإن تركيا ستعمل على بناء سياسة إقليمية بشكل خاص تتجاوز قيود "لوزان" بقدر لا يُدخلها في مواجهات عسكرية واسعة، كما أن تركيا قد تتخذ مساراً آخر، إذ يمكن أن تختار إعادة التفاوض أو تعديل أحكام معيّنة في "معاهدة لوزان" بدلاً من الإلغاء الصريح. وعلى الرغم من أن هذا قد يتطلب موافقة الأطراف الموقّعة الأُخرى، يمكن أن تسعى تركيا لمزيد من الاندماج في المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، أو متابعة مبادرات دبلوماسية أُخرى لتوسيع مجال نفوذها وعلاقاتها مع الدول الأُخرى.
يُذكر أن الندوة عُقدت بتنظيم من "منتدى الفكر العربي"، و"جمعية المؤرخين الأردنيين"، و"مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي"، و"المركز الثقافي التركي" في عمّان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!