ترك برس - TRT عربي
حتّم موقع تركيا الجغرافي عليها أن تكون دولة محورية في السياسة الإقليمية، وما أسهم في تحويل تركيا من مجرد لاعب إقليمي إلى دولة لها دور مهم في السياسة العالمية هو انتهاجها سياسة خارجية متوازنة تسعى إلى إرساء الاستقرار في منطقتها وخارجها.
استندت السياسة الخارجية للجمهورية التركية منذ تأسيسها إلى مبادئ عدّة، ومع كل تلك التغيرات العالمية، فإنّ تركيا وعلى مدار مائة عام لم تَحِد عن المبدأ الجوهري لسياستها الخارجية "سلام في الوطن.. سلام في العالم" الذي رمى بذوره مؤسسو الدولة التركية الحديثة، ورعاه أحفادهم من بعدهم.
جمهورية شبّت على السلام
لم تولد الجمهورية التركية عن طريق الصدفة، بل من رحم حروب استمرت لأعوام خاضتها بضراوة، محققة فيها انتصارات تاريخية على كل من أراد أن يحرمها من حقها في أرضها، لذا يدرك الأتراك جيداً أهمية السلام.
وُقّعت "معاهدة لوزان للسلام" بين دول الحلفاء والقوات التركية المنتصرة في حرب الاستقلال، وأُلغيت معاهدة سيفر بكل ما كانت تحويه من شروط مجحفة للشعب التركي في 24 يوليو/تموز 1923، وبعد ثلاثة أشهر من هذا التاريخ أعلن مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه، تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، وعلى أثر هذه المعاهدة رُسمت حدود تركيا المستقلة، واعتُرف بالجمهورية على نطاق دولي.
ومنذ ذلك الحين، عملت تركيا على إعلاء قيمة السلام في سياستها داخلياً وخارجياً، وفي عام 1929 انضمت تركيا إلى حلف "كيلوغ بريان" أو ما يعرف بـ"ميثاق باريس" الذي ينصّ على نبذ الحروب وعدم اللجوء إليها من أجل تسوية النزاعات.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان العالم بحاجة إلى تشكيل نظام دولي يدعو للتضامن والسلام، وفي عام 1945 أُنشئت منظمة الأمم المتحدة، وكانت تركيا واحدة من الأعضاء المؤسسين.
الدور التركي في أعقاب الحرب الباردة
مع بداية التسعينيات وتفكك الاتحاد السوفييتي وما أعقبه من تغيّرات في المنطقة والعالم، بذلت تركيا جهداً بارزاً في استقرار دول القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، سعت تركيا لإنشاء مبادرة تعاون البحر الأسود عام 1992 في إسطنبول باجتماع زعماء 11 بلداً، وبعد 7 سنوات اكتسبت المبادرة صفة قانونية دولية، وتحولت إلى منظمة "التعاون الاقتصادي للبحر الأسود".
وفي هذا الإطار أيضاً، قادت تركيا مسار "قمم قادة الدول الناطقة بالتركية" التي بدأت بالانعقاد في عام 1992، واكتسبت هذه الاجتماعات هيكلاً بتأسيس المجلس التركي في عام 2010 في إسطنبول، وقد تحول المجلس في عام 2021 إلى منظمة دولية، في قرار وصفه وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو، بـ"التاريخي".
إلى جانب دعم تركيا هذه الدول الشقيقة في تطورها الديمقراطي والاقتصادي، وفّرت لها خدمات مدنية وإنسانية؛ فوكالة التعاون والتنمية التركية (TİKA) التي تأسست عام 1992 ولها الآن مراكز في عدد من الدول، نشأت بالأساس لتأمين المساعدات في مجالات خدمية مثل التعليم والصحة لدول آسيا الوسطى، وعلى سبيل المثال نفّذت الوكالة 559 مشروعاً في المنطقة خلال عام 2007.
من ناحية أخرى وبعد تفكك يوغوسلافيا، شهدت منطقة البلقان حروباً مدمِّرة في فترة التسعينيات، ومن أجل تعزيز السلام في المنطقة بادرت تركيا بإنشاء آلية استشارة ثلاثية بين تركيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك من جهة، وبين تركيا وصربيا والبوسنة والهرسك من جهة أخرى، وفي ضوء تلك المبادرة عقدت في إسطنبول بتاريخ 24 أبريل/نيسان 2010 قمة البلقان الثلاثية، بمشاركة زعماء تركيا والبوسنة والهرسك وصربيا، وكانت هذه هي المرة الأولى منذ اندلاع الحرب التي يجتمع فيها قادة البوسنة والهرسك وصربيا معاً.
وخلال تلك الحروب أنشأ الهلال الأحمر التركي مخيمات لـ5000 لاجئ من كوسوفو في ألبانيا، وأرسل مساعدات بقيمة 23.9 مليون دولار إلى المخيمات، وقدّم مساعدات غذائية وطبية وغيرها بقيمة 32 مليون دولار إلى البوسنة والهرسك.
كما استضافت تركيا ما يقرب من 18000 لاجئ من كوسوفو فرّوا من مقدونيا، وخلال أزمة كوسوفو، قدّم الهلال الأحمر مساعدات بقيمة 1.685.938 دولاراً لمقدونيا، إضافةً إلى المساعدات المقدمة إلى مقدونيا لترميم المباني التاريخية.
الوساطة من أجل السلام
في بداية العقد الأول من القرن الحالي، توسعت مبادرات السلام التركية خارج منطقتها وامتدت شرقاً وغرباً، وفي هذا الصدد يقول المتخصص في العلاقات الدولية والشأن التركي محمود الرنتيسي، إنّ "وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا كان بمثابة تحول كبير في العلاقات الخارجية".
ويشير الرنتيسي في حديثه مع TRT عربي، إلى وساطة تركيا بين الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، خصوصاً في أثناء حصار ياسر عرفات في رام الله عامَي 2003 و2004، وكذلك دورها بين الاحتلال الإسرائيلي وسوريا في 2008، من خلال رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان.
ويستكمل الباحث: "أما على المستوى الداخلي، توسطت تركيا بين حركتَي فتح وحماس لتحقيق مصالحة وطنية رغم العقبات بينهما، وكانت من أوائل الدول التي رحبت بفوز حماس في انتخابات 2006، وأخذت موقفاً يعطي شرعية سياسية لحركة حماس في ظل مقاطعة بعض الدول في المنطقة لها".
على صعيد آخر، استطاع رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان بالتعاون مع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، إبرام اتفاق مع إيران في مايو/أيار 2010 بخصوص تبادل الوقود النووي بين إيران والغرب، الذي يعدّ الإنجاز الدبلوماسي الوحيد في الملف النووي الإيراني.
وفي سبتمبر/أيلول 2010، أطلقت تركيا بالتعاون مع فنلندا مبادرة "الوساطة من أجل السلام" داخل الأمم المتحدة في نيويورك؛ لتأكيد أهمية الوساطة الدبلوماسية لحل النزاعات الدولية، ومن أجل تخصيص الجهود والموارد اللازمة لذلك. وفي هذا الصدد، عُقدت النسخة الأولى لـ"مؤتمر إسطنبول للوساطة" في فبراير/شباط 2012، تحت شعار "تعزيز السلام عبر الوساطة".
أما عن الأزمة السورية، فيقول الباحث في المركز التركي للأبحاث السياسية (سيتا)، محمود الرنتيسي، إنّ تركيا حاولت منذ البداية الوساطة بين النظام السوري والجهات الشعبية، وزار وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو، دمشق، مرات عدة، من أجل التوصل إلى حل، واستمرت هذه الجهود نحو ثمانية أشهر، لكنها قُوبلت بالرفض من النظام السوري.
ويتابع الرنتيسي: "استكمالاً لجهود الوساطة، اجتمع الأتراك مع الإيرانيين بمعية الروس في الاجتماع الثلاثي في سوتشي، ثم في أستانة لرعاية مفاوضات بين المعارضة السورية والنظام".
وعلى الجانب الإنساني لجهود أنقرة، يلفت الرنتيسي إلى أنّ "تركيا استوعبت ملايين اللاجئين السوريين على أثر الأزمة، كما حاولت إقامة منطقة آمنة للسكان في شمال سوريا".
وعن الدور الذي لعبته تركيا في الصراع الروسي-الأوكراني، يوضح الباحث أنّ "تركيا نجحت في أن تكون وسيطاً مؤثراً بين أوكرانيا وروسيا بحكم علاقاتها الجيدة مع الطرفين، وأسهمت في بداية الحرب في ملف الممرات الإنسانية من أجل إجلاء المدنيين، كما أدت دوراً في تحقيق بعض التبادلات في الأسرى".
ويوضح الرنتيسي أنّ التطور البارز الذي يهم العالم كله وليس فقط روسيا وأوكرانيا، كان نجاح تركيا في التوسط لإتمام اتفاقية الحبوب، إذ إنّ الأزمة أثّرت على حالة الغذاء العالمية وبخاصة الدول الفقيرة، مما سبّب ارتفاعاً في أسعار الغذاء وتضرر الكثير من الدول، وإن كانت هناك مشكلة في تجديدها المرة الأخيرة، فإن تركيا ما زالت تبذل جهوداً للحفاظ على هذه الاتفاقية.
"لن نترك قلباً دون تضميد جراحه"
تتعاون الدولة التركية عبر مؤسساتها مثل إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد)، وإدارة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، ووقف الديانة التركي، مع منظمات غير حكومية محلية الأخرى مثل الهلال الأحمر، وهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، بمبادرات إنسانية في دول العالم كافة.
وفقاً لتقرير المساعدات الإنسانية العالمية للعام الماضي، الذي أعدّته مؤسسة "مبادرات التنمية" ومقرها بريطانيا، احتفظت تركيا بالمرتبة الأولى في مصاف الدول التي قدمت المساعدات الإنسانية الأكثر مقارنةً بإجمالي ناتجها القومي، والثانية بشكل عام بعد الولايات المتحدة، إذ قدمت تركيا مساعدات عالمية بقيمة 5 مليارات و587 مليون دولار، محتفظة بنفس الترتيب على مدار السنوات الست الأخيرة.
على صعيد آخر، قدمت تركيا في 2004 مساعدات تبلغ قيمتها نحو مليار دولار لدعم استقرار الشعب الأفغاني، كما أنشأت 27 مدرسة تَلقّى التعليم فيها 38 ألف طالب، وأمّنت فرصة تعليم الفتيات، بالإضافة لحملات محو الأمية للنساء.
وفي عام 2005، افتتحت إدارة التعاون والتنسيق التركية مراكز لها في عدد من دول إفريقيا، وبلغت قيمة المساعدات التنموية الرسمية التي قدمتها المؤسسات العامة التركية إلى إفريقيا بين عامي 2005 و2019 2.21 مليار دولار، كما بلغ إجمالي المساعدات التي قدمتها تركيا للدول الأقل نمواً في إفريقيا ما يزيد على مليار ونصف المليار دولار في نفس المدة.
وفي فترة جائحة كورونا، نفّذت الدولة التركية ما يقرب من 50 مشروعاً لمكافحة الوباء في أكثر من 30 دولة إفريقية من خلال مؤسسة "تيكا".
وصرح الرئيس أردوغان العام الماضي، بأنّه في الأعوام العشرة الأخيرة، قدمت تركيا مساعدات تنموية وإنسانية للصومال تجاوزت قيمة المليار دولار.
كما أكد الرئيس أردوغان في خطاب سابق له: "لن نترك صديقاً من دون طرق بابه، ولا قلباً من دون تضميد جراحه، ولا بلداً في إفريقيا من دون أن نتعاون معه".
من ناحية أخرى، نفّذت "تيكا" أكثر من 30 ألف مشروع في 170 دولة على مدار العقود الثلاثة الماضية، وشملت مجالات مختلفة مثل الزراعة والصحة والتعليم وترميم الآثار التاريخية.
وخلال انتشار فيروس كورونا، قدمت المؤسسة مستلزمات ومعدات طبية إلى أكثر من 100 دولة، وقد صرح وزير الخارجية السابق مولود جاويش أوغلو، بأنّ بلاده هي الثالثة عالمياً في مساعدات كورونا الطبية.
وأعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد" أنّ المنظمة قدمت مساعدات إنسانية دولية خلال عام 2019، وصلت إلى 55 مليون دولار أمريكي، وأنها لبَّت نداء المحتاجين في 11 دولة على الأقل.
وقد أكد الرئيس أردوغان استمرار بلاده قرناً بعد قرن على نهج السلام والإنسانية قائلاً: "إنّ مئوية تركيا القادمة ستكون مئوية السلام للبلاد، وسنواصل العمل من أجل تحقيق الاستقرار في منطقتنا الجغرافية والعالم أجمع".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!