ترك برس
يعدّ الملف السوري أحد عناصر الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية التي تنشط بقوة عسكرياً في البلد العربي، إذ تتهم أنقرة واشنطن بدعم تنظيم "ي ب ك" الذراع السوري لـ "بي كي كي" الإرهابي، فيما تتجه الأنظار حالياً إلى مصير هذا الملف في المرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين الحليفين.
عمر أونهون، آخر سفير تركي لدى دمشق، سلّط الضوء في مقال له نشره موقع "المجلة"، على مكانة سوريا في المرحلة الجديدة من العلاقات بين أنقرة وواشنطن والتي بدأت تتضح معالمه شيئاً فشيئاً مع تسارع وتيرة الاجتماعات رفيعة المستوى بين مسؤولي البلدين.
المقال الذي جاء بعنوان "علاقات تركيا والولايات المتحدة... وبينهما سوريا"، قال فيه الدبلوماسي التركي السابق إن "العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة قد تكون في طريقها إلى التحسن. فقد سافر رئيس وكالة الاستخبارات التركية، إبراهيم كالين، إلى الولايات المتحدة لمتابعة سلسلة الاتصالات المباشرة والهاتفية الأخيرة بين البلدين على أعلى المستويات".
وأضاف: سافر وزير الخارجية هاكان فيدان أيضا إلى واشنطن في 7 مارس/آذار، بدعوة من نظيره الأميركي أنتوني بلينكن، حيث يلتقي كبار الدبلوماسيين في إطار حوار الآلية الاستراتيجية الذي تأسس في أكتوبر/تشرين الأول 2021 بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وجو بايدن.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
وفي ظل الحروب والأزمات في أوكرانيا وغزة وسوريا وما حولها، يتوقع المرء أن يتعاون الشريكان الاستراتيجيان وحلفاء "الناتو" الذين تجمع بينهم الكثير من المصالح المشتركة، ولكن الوضع لم يكن كذلك. فالولايات المتحدة والغرب يشككان في توجهات تركيا، بينما تركيا مستاءة من الافتقار إلى دعم جهودها في مكافحة الإرهاب، وهذا ما يسبب توترا في الثقة المتبادلة.
ومع ذلك، فقد لوحظ في الآونة الأخيرة تحول نحو السياسة الواقعية والبرغماتية، إذ يسعى الرئيس أردوغان إلى تخفيف التوترات وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الغربية والشرق أوسطية، بدفع كبير من التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا. وقد أدت حاجة الاقتصاد التركي للاستثمار الأجنبي إلى دفع دبلوماسي نحو إقامة علاقات إيجابية مع المستثمرين المحتملين.
وتشير موافقة تركيا على طلب عضوية السويد في "حلف شمال الأطلسي" إلى تحول إيجابي في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، على الرغم من الخلافات المستمرة، ولا سيما فيما يتعلق بسوريا.
وتواصل الولايات المتحدة وتركيا، باعتبارهما مؤثرين مهمين في المشهد السوري الذي يمزقه الصراع، التنقل في مجموعة معقدة من ديناميكيات القوة والتهديدات الإرهابية والأزمات الإنسانية.
وإن كانت الحرب الكلاسيكية في سوريا قد توقفت مؤقتا ربما، فإن الأزمة لا تزال مستمرة في ظل التحديات المستمرة وعدم الاستقرار، بل إنها تتفاقم بسبب تنافس الأجندات الداخلية والخارجية.
وفيما لا يزال بشار الأسد في السلطة، فإنه لا يسيطر إلا على حوالي 68 في المئة فقط من سوريا، مع سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية- وحدات حماية الشعب" في شمال غربي سوريا وشرقي الفرات، و"هيئة تحرير الشام" في إدلب، وجماعات المعارضة السورية المدعومة من تركيا في مناطق شمال شرقي البلاد.
وفي المقابل، تتركز مخاوف الولايات المتحدة في سوريا أساسا حول الخشية من احتمال عودة تنظيم "داعش" وزيادة نفوذ إيران ووكلائها وروسيا. وتقود القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) القتال ضد "داعش" في المنطقة، حيث يعمل نحو 800 جندي أميركي في سوريا جنبا إلى جنب مع شركاء محليين مثل "قوات سوريا الديمقراطية"، و"وحدات حماية الشعب".
وتشكل "قوات سوريا الديمقراطية"، و"وحدات حماية الشعب"، و"حزب العمال الكردستاني"، أزمة مربكة في بعض الأحيان. وتأسست "الوحدات" خلال الحرب الأهلية في شمال سوريا على يد أكراد من سوريا وتركيا. وقد اعترفت الولايات المتحدة بها كشريك محلي لها في الحرب ضد "داعش".
ولكن تركيا احتجت مرارا ومنذ زمن طويل على الولايات المتحدة لاشتراكها أثناء محاربة منظمة إرهابية (داعش)، مع منظمة إرهابية أخرى (وحدات حماية الشعب/حزب العمال الكردستاني)، وخاصة لأن "حزب العمال" مصنف رسميا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة كمنظمة إرهابية.
لكن الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تقول إن "حزب العمال الكردستاني"، و"وحدات حماية الشعب"، شيئان منفصلان. وعلى عكس "حزب العمال الكردستاني"، فإن "وحدات حماية الشعب"، و"قوات سوريا الديمقراطية"، ليستا مدرجتين في قائمة المنظمات الإرهابية.
والحقيقة أن هذه المنظمات هي أشبه ما يكون بالدمى الروسية (ماتريوشكا) حيث يوجد في كل دمية دمية أصغر منها. في هذه الحالة، الدمية الأكبر هي "قوات سوريا الديمقراطية". داخل ذلك يوجد و"حدات حماية الشعب"، وداخل وحدات حماية الشعب يوجد "حزب العمال الكردستاني".
تطور "وحدات حماية الشعب" لتصبح جزءا من "قوات سوريا الديمقراطية" كان جزئيا محاولة لتنويع تكوينها ومعالجة المخاوف التركية، على الرغم من أن "وحدات حماية الشعب" تظل جوهر "قوات سوريا الديمقراطية". وعلى الرغم من تغيير العلامة التجارية، استمرت "وحدات حماية الشعب" في تلقي الدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى من حيث الأسلحة والمعدات والتدريب، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى دورها في مكافحة "داعش".
ومن الناحية المالية، تسيطر "وحدات حماية الشعب"، من خلال الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، على حقول نفط كبيرة، مما يدر إيرادات كبيرة. ويدعم هذا الدخل جهودها العسكرية والحكم المدني، على الرغم من كونه أقل بكثير من عائدات النفط في دول المنطقة.
وتسلط هذه الشبكة المعقدة من التحالفات والترتيبات المالية الضوء على تحديات التصدي للإرهاب، والحكم الذاتي الإقليمي، والدبلوماسية الدولية في سياق الصراع السوري وسياسات الشرق الأوسط الأوسع.
وقبل النزاع في سوريا، بلغ إنتاج سوريا من النفط نحو 380 ألف برميل يوميا. وفي الوقت الحالي، تدير "وحدات حماية الشعب" إنتاج النفط في حدود 70 ألف برميل يوميا، تدر وفق التقديرات إيرادات تبلغ نحو 1.5 مليار دولار سنويا من خلال المبيعات بأسعار أقل من السوق إلى كيانات مختلفة بما في ذلك شمالي العراق ونظام الأسد وفصائل المعارضة في شمال غربي سوريا.
وقد يكون هذا الدخل ضئيلا مقارنة بعائدات النفط للمنتجين الإقليميين الآخرين، إلا أنه كبير بالنسبة لمنظمة ما، إذ يغذي الجماعات المسلحة المختلفة ويفيد نظام الأسد.
ويقدم هذا الوضع خدمة كبيرة لمصالح الولايات المتحدة من خلال السماح لها بالحفاظ على وجود استراتيجي في سوريا مع الحد الأدنى من العبء المالي على دافعي الضرائب الأميركيين.
ومع ذلك، فإن فعالية "وحدات حماية الشعب" في مواجهة "داعش" ليست حقيقة مثبتة، على الرغم من ادعاءاتها بأنها القوة الرئيسة ضد الجماعة الإرهابية. فقد شارك في القتال ضد "داعش" جهات فاعلة متعددة بما في ذلك تركيا وإيران ووكلاؤها، وجماعات مثل تنظيم "القاعدة"، و"هيئة تحرير الشام"، مما يتحدى فكرة أن "وحدات حماية الشعب" هي القوة الوحيدة أو الأكثر فعالية في هذه المعركة.
وفوق ذلك، ثمة قضايا تتعلق بالفساد وسوء الإدارة، ولا سيما في مخيمات مثل مخيم الهول حيث يتم احتجاز مقاتلي "داعش" وعائلاتهم، ويثير ذلك المخاوف من حكم "وحدات حماية الشعب". حيث إن حالات دخول الأفراد إلى هذه المخيمات ومغادرتها بحرية، والتقارير التي تفيد باحتجاز امرأة إيزيدية كأَمَة جنسية داخل أحد المخيمات لمدة ست سنوات، تؤكد هذه التحديات.
وتبالغ "وحدات حماية الشعب" أيضا في تضخيم التهديد الذي تمثله "داعش" الآن، وخاصة أن وجود مخاطر إقليمية أخرى مثل الصراعات بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران، والتوترات بين القبائل العربية و"وحدات حماية الشعب"، والوضع المضطرب في إدلب، كل ذلك يثير مخاوف أكبر.
وفي النهاية، لا يزال مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا غير مؤكد، فهو يتأثر بعوامل مثل السياسة الداخلية الأميركية ونتائج الانتخابات الرئاسية واحتمال عودة ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وقد يكون لدى وزيري الخارجية الأميركي والتركي القدرة على إيجاد طرق للمساهمة في إيجاد حل سياسي ومواجهة الأزمة الإنسانية وإعادة بناء سوريا، إذا ما عملا معا من أجل ذلك. ولكن مدى قدرة الطرفين على التعاون سيعتمد على مدى المرونة التي يرغبان في إظهارها، وخاصة فيما يتعلق بالدور المستقبلي لـ"وحدات حماية الشعب". إذ إن موقف تركيا بشأن "وحدات حماية الشعب" مقيد بالحقائق الحالية، مما يسلط الضوء على الديناميكيات المعقدة التي تلعبها الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق الاستقرار في سوريا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!