محمد حسن القدّو - خاص ترك برس
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دفعت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية الحزب الحاكم إلى المضي قدمًا في تطبيق التعددية الحزبية، لا سيما وأن قيادات الحزب أيقنت أنّ تقدم تركيا وتحقيق رفاهيتها لا يتحقق إلاّ بالاعتماد على التعددية الحزبية. وقد أوضح إينونو في خطابه في 14 أيار/ مايو 1945 قائلًا: "إن المرحلة مناسبة للتفكير الحقيقي بالحياة الديمقراطية"، وقد أيقنت قيادات حزب الشعب الجمهوري أنّ الحزب أصابه الكثير من التصدع ولا بد من تحديثه وتجديده.
وقد توضح ذلك عندما قدّم أربعة من قيادات الحزب تقريرًا سمي بتقرير الأربعة وهم كل من جلال بايار وعدنان مندريس وفؤاد كوبرلو ورفيق كورلتان، وأكد التقرير على ضرورة تفعيل الدور الرقابي للمجلس الوطني لضمان سيادة وحاكمية الشعب. واستغل هؤلاء للترويج عن أفكارهم استياء فئات واسعة من الشعب وأيضًا استياء بعض أعضاء الحزب. ودعا هؤلاء إلى تغيير منهاج الحزب وإلغاء القوانين المنافية للدستور وإجراء انتخابات حرة. إلاّ أنّ مؤتمر حزب الشعب الجمهوري رفض طلب هؤلاء ووصفهم بالمعارضة وتم طردهم من الحزب.
قيام الحزب الديمقراطي
في كانون الثاني/ يناير 1946 قرر الأعضاء المطرودون من حزب الشعب الجمهوري تأسيس حزب جديد باسم "الحزب الديمقراطي"، والذي سرعان ما احتل موقعًا في الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد.
جرت أول انتخابات بوجود حزب معارض في تموز/ يوليو 1946، وكانت نتيجة هذه الانتخابات فوز حزب الشعب الجمهوري وحصل على 85% من الأصوات.
اتّهم الحزب الديمقراطي حزب الشعب الجمهوري بتزوير الانتخابات والتدخل في سيرها عن طريق السلطات الإدارية وخاصة في المناطق الريفية وبقي الحزب الجمهوري يحكم تركيا وحده حتى انتخابات أيار/ مايو 1950 التي فاز بها الحزب الديمقراطي وحصل على نسبة 53% من الأصوات، إذ تم انتخاب جلال بايار رئيسًا للجمهورية وتولى رئاسة الوزراء عدنان مندريس.
وضمت الحكومة الجديدة أبرز زعماء الحزب الديمقراطي، وأرادت حكومة الديمقراطيين الحد من سيطرة الدولة على الاقتصاد الوطني كما حاولت تأجيج الروح القومية واستغلال المشاعر الدينية للسكان لتقوية مواقعها في السلطة، وخصوصا أن توجه الحزب الديمقراطي تطابق مع التوجه الإسلامي في تركيا. أمّا على الصعيد الخارجي فكان مع التعاون الوثيق والشامل مع الولايات المتحدة الأمريكية ومخططاتها، ففي حزيران/ يونيو 1950 أرسلت الحكومة دون إعلام المجلس الوطني التركي الكبير قوة عسكرية قوامها عشرون ألف رجل إلى كوريا لمحاربة الكوريين. وفي تشرين الأول 1951 انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. كما ساهمت تركيا بنشاط كبير في إقامة حلف بغداد.
أدت الإخفاقات في القرارات التي اتخذتها حكومة الديمقراطيين إلى استياء شعبي وكانت السياسة الاقتصادية التي اتبعتها حكومة الديمقراطيين مخيبة للآمال فقد زادت ديون تركيا الخارجية إلى اثني عشر مليار ليرة، بالإضافة إلى سبعة مليارات ليرة ديون داخلية واضطرت حكومة مندريس الديمقراطي إلى طلب مزيد من الديون. عانت حكومة مندرس خلال السنوات 1950- 1960 من وجود قادة جيش اعتادوا في ظل مصطفى كمال وخلفه عصمت إينونو أن يتمتعوا بامتيازات كبيرة فضلاً عن السلطة التي كانوا يتمتعون بامتيازها في ظل دكتاتورية الحزب الواحد ومهمة الارتباط الشخصي بكل من أتاتورك وخلفه إينونو.
بداية الاضطرابات وأسبابها
أولاً: لغرض التصدي وتحجيم قدرة الجيش في التدخل في الحياة السياسية استطاع مندرس في 6 حزيران/ يونيو 1950 إبعاد رئيس أركان الجيش وقادة القوات البحرية والبرية والجوية وقادة آخرين بسبب شكه في ولائهم للحكومة الجديدة. أمّا الإجراء الثاني الذي اتُّّخِذ بحق الجيش فهو نقل 19 ضابطًا لانتقادهم الحكومة. في المقابل كان زعيم حزب الشعب اينونو يملك أوثق العلاقات مع قادة الجيش، واستغل اينونو الإجراءات التي اتخذت ضد قادة الجيش بالترويج لدعاية منظمة مفادها أنّ الحزب الديمقراطي يقوم بتدمير الجيش.
ومما زاد الطين بلة أن شائعات أثيرت حول تدمير منزل أتاتورك في سالونيك أثناء مفاوضات لندن حول قبرص، وعلى إثر ذلك اندلعت المظاهرات والاضطرابات في إسطنبول في يومي السادس والسابع من أيلول/ سبتمبر 1955، حيث تم تدمير أكثر من خمسة آلاف مبنى ومسكن ومشروع وكنيسة. إزاء هذه الأوضاع اتخذت حكومة مندريس إجراءات مشددة وقمعية ضد مثيري الاضطرابات وضد المعارضة أثارت استياء الشارع التركي والمعارضة، وهكذا دخل الصراع بين الحكومة والمعارضة مرحلة حاسمة وجرت المصادمات داخل البرلمان وانضم الطلبة إلى جانب المعارضة وجرت مظاهرات لطلبة جامعة أنقرة تأييدا لطلبة جامعة إسطنبول.
أمام هذه الاوضاع أعلنت الحكومة الأحكام العرفية في مدن أنقرة وإسطنبول ومنعت التجمعات والمظاهرات ومنعت وسائل النشر من نشر الأخبار حول المظاهرات، إلا أن هذه الإجراءات القمعية لم تقضي على حركة المعارضة، فقد قام طلبة المدرسة العسكرية في أنقرة في 21 أيار/ مايو 1960 بمظاهرات صاخبة تأييدا للمظاهرات المعارضة من قبل الطلبة ضد الحكومة. وعلى إثر ذلك بدأت قوات الجيش في أنقرة صبيحة يوم 27 مايز بأحتلال المؤسسات الحكومية ومنازل زعماء الحزب الديمقراطي البارزين واعتقل العسكر رئيس الجمهورية جلال بيار ورئيس الحكومة عدنان مندريس معلنة انتهاء عهد الحزب الديمقراطي في الحكم.
ثانيا: شهدت تركيا في النصف الثاني من الخمسينيات أزمة اقتصادية خانقة انصبت آثارها على فئات المجتمع المختلفة والتي عانت الأمرّين من التضخم وتدني الإنتاج والبطالة والديون الخارجية وغير ذلك. ففي النصف الثاني من الخمسينيات شهد القطاع الزراعي نوعًا من التلكؤ بسبب التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية واستمرار الزيادة في عدد السكان بصورة لا تتناسب مع الإنتاج الزراعي. أدى ذلك إلى استيراد نصف مليون طن من القمح سنة 1960. بعد أن كانت تركيا من الدول المصدرة لهذه المادة حتى عام 1954. والجدير بالذكر أنّ 80% من السكان يعملون في الزراعة.
أمّا البطالة فهي من المشاكل المزمنة بالنسبة لتركيا، فقد بلغت نسبة العاطلين عن العمل عام 1955 نصف مليون إنسان، وارتفع العدد إلى أكثر من 700 ألف عاطل، بالإضافة إلى 3.5 مليون شخص يعانون من البطالة المقنعة في الريف عام 1961. وحسب ما أعلنته السلطات الحكومية، فإنّ سياسة عدنان مندريس الاقتصادية الزراعية كانت لصالح الملاكين الكبار الذين شكلوا قوة أساسية استند عليها في حكمه فقد كان ملاكو الأراضي والإقطاعيين هم المستفيدين من قروض البنك الزراعي والاعتمادات التي قدمتها إضافة إلى ذلك فقد جرى طرد أكثر من 200 ألف عائلة فلاحة من أراضيها حتى عام 1960. وأدى هذا إلى هجرة الفلاحين إلى المدن الكبرى بحثًا عن لقمة العيش وإلى تعميق أزمة البطالة وخلق أوضاع اجتماعية في غاية التعاسة.
أمّا الوضع الاقتصادي العام فكان في غاية الصعوبة فقد بلغ العجز في الميزان التجاري عام 1950 (26.2) مليون ليرة ليقفز الرقم إلى 325.3 عام 1959 في نفس الفترة إزاء هذه الأوضاع المتردية في الاقتصاد والزراعة والعجز المالي الحكومي وانتشار البطالة وضعف الخدمات الصحية وتردي الواقع التعليمي وتراجعه وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتردي الواقع الريفي والزراعي وازدياد ديون تركيا الخارجية – بدأت أحزاب المعارضة تستغل الاستياء العام الذي ساد البلاد والتي اتهم بها الحزب الديمقراطي بسبب عدم تجاوبها مع مصالح تركيا الوطنية. فبدلاً من الالتفات نحو مطالب الشعب والمعارضة السياسية أصدر عام 1953 مجموعة من القوانين التي تقيد حرية الصحافة وتضييق الخناق على الأحزاب المعارضة، ثم تلا ذلك القانون قانون آخر عام 1954 يعطي الحكومة الحق في صرف (فصل-إعفاء) موظفي الدولة من الخدمة دون أن يكون لهؤلاء الموظفين الحق في الاعتراض أمام أية محكمة. كان الهدف من هذا القانون التخلص من العناصر غير الموالية للحكومة.
وصدر قانون آخر في نفس العام يمنع الصحف من التعرض لحياة المسؤولين الخاصة. حاولت عدة أوساط إقناع حكومة مندرس بالتخلي عن سياستها القمعية والعقيمة ومنهم جمال غورسيل الذي انتخب رئيسًا لجمعية الأتاتوركيين السرية، حيث أرسل في 3 أيار/ مايو 1960 رسالة إلى وزير الدفاع طلب فيها كورسيل استقالة جلال بيار وعدنان مندريس وتشكيل حكومة جديدة في البلاد لإنقاذها من أزماتها الاقتصادية والسياسية وطالب أيضًا بإطلاق سراح الطلبة والصحفيين المسجونين وإلغاء لجنة التحقيق البرلمانية. ولما لم تؤدِ رسالته إلى نتيجة تذكر قرر تقديم استقالته ومن ثم غادر أنقرة إلى أزمير حيث لزم منزله فيها. وعلى إثر شائعات أطلقت أثناء الاحتفال السنوي في يوم الشباب في 19 أيار 1960 بأن السلطات الحكومية أوقفت وضربت عددا من ضباط الجيش، مما أدى إلى اندلاع تظاهرة لطلبة المدرسة العسكرية باتجاه القصر الجمهوري وانضم إلى المتظاهرين صغار الضباط وأساتذة المدرسة العسكرية. وانضمت إليهم أعداد كبيرة من المدنيين. ثم توسعت رقعة المظاهرات فشملت معظم أنحاء أنقرة وغيرها من المدن الكبرى مثل إسطنبول وإزمير.
وفي مساء يوم 22 أيار 1960 اجتمع عدد من الضباط المنتمين إلى جمعية الأتاتوركيين وقاموا بتشكيل لجنة سميت بـ (لجنة الوحدة القومية). وبعد سلسلة من الاجتماعات قررت اللجنة في النهاية الإطاحة بالحكومة. اتفق ثلاث قادة عسكريين وهم جمال غورسيل رئيس جمعية الأتاتوركيين السرية، وفخري أوزديلك قائد الجيش الأول لمنطقة تراكيا، وشفيق ألتر رئيس إدارة الحركات في وزارة الدفاع. وذلك في مساء يوم 26 أيار/ مايو على القيام بالانقلاب العسكري في الساعة الثالثة فجرًا من اليوم التالي أي يوم 27 أياار 1960. وفي الساعة الثالثة تم الانقلاب وتم اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الوطني ورئيس أركان الجيش المتعاطف مع الديمقراطيين.
وفي الساعة التاسعة صباحًا أذيع أول بيان عبر محطات أنقرة وإسطنبول باسم لجنة الوحدة القومية. ثم صدر البيان رقم 9 في الساعة الواحدة من بعد ظهر نفس اليوم وكان بتوقيع جمال غورسيل كقائد عام للقوات المسلحة. وفي الرابعة عصرًا خطب جمال غورسيل في أنقرة والذي تم استقدامه بطائرة خاصة من إزمير معلنًا نجاح الحركة داعيًا الشعب إلى مزاولة حياته اليومية الاعتيادية.
للمزيد انظر:
- حميد بوزرسلان، تاريخ تركيا المعاصر، أبو ظبي، دار الكلمة، ط1، 2009.
- إبراهيم خليل الطيار، الصراع بين العلمانية والإسلام في تركيا، الإمارات للدراسات، ط1، 2004.
- إبراهيم خليل العلاف وآخرون، تركيا المعاصرة، الموصل، مطبعة جامعة الموصل، ط1، 1987.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس