ولاء خضير - خاص ترك برس

يتصدر المشهد التركي الحديث عن مُفكر تركيا وفيلسوفها أحمد داود أوغلو، وعن لحظاته الأخيرة التي يقضيها بصفته رئيسا للوزراء التركي، ورئيسًا لحزب العدالة والتنمية، وبعيدًا عن محبته الجماهيرية، وما يعلوا وجهه من سماحة وطيبة وبشاشة، وعدا عن سنواته الطويلة التي قضاها كاتبًا وأستاذًا ومُنظرًا ومُفكرًا خلال أعوام التسعينيات، فهو يعُد أحد أهم العقول التي تقف وراء نهضة تركيا الحديثة.

كما يعتبر أحمد داود أوغلو من القلائل الذين استطاعوا الجمع بين سيرة أكاديمية، وتجربة سياسية بنجاح باهر، ففي حين أن الصعود السياسي لشخص آتٍ من خلفية أكاديمية، ومنخرط في الحياة التعليمية بعمق كأستاذ جامعي أمرًا غير مألوف، إلا أن وصوله لهذه الدرجة من الأهمية السياسية في الدولة يُعد أمرا مميزًا، ليس في تركيا فحسب، بل في العالم أجمع.

كانت مسيرة الإكاديمي أحمد داود أوغلو بدأت في ميدان السياسة عام 2002م، كمستشار لرئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان، وبعدها أصبح وزيرا لخارجية تركيا عام 2009، وبقي وزيرا للخارجية حتى عام 2014م، حين قرر حزب العدالة والتنمية أن يتولى هو رئاسته، ومنذ ذلك الحين، أصبح داود أوغلو هو "رجُل أردوغان" الأول، وكاتم السر المقرب.

ولطالما تميز أداؤه السياسي بالمرونة، والحيوية، والنشاط، وبهذا يُعد داود أوغلو طرازا فريدا من الساسة، حيث التزم بمبدأ الموافقة بين المبادئ الأخلاقية، والإنسانية، والحفاظ على المصالح الوطنية العليا لتركيا.

كما وضع أوغلو الأسس الستة للسياسة الخارجية التركية "الجديدة"-حسب وجهة نظره وهي، التوازن السليم بين الأمن والحرية، تصفير المشاكل مع دول الجوار، التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، الدبلوماسية المتناغمة، أسلوب دبلماسي جديد.

وعني بالسياسة الخارجية متعددة الأبعاد أي ضرورة نسج العلاقات، لا سيما الاقتصادية مع مختلف الدول والتكتلات والأطياف، حتى لا تكون الدولة تحت ضغط كبير من جهة معينة الاتحاد الأوروبي تحديدًا، وحتى يزيد ذلك من رصيدها ودورها وإمكانات تأثيرها.

أما الدبلماسية المتناغمة حسب وجهة نظر داود أوغلو تعني أن تسير الرئاسة والحكومة والوزارات المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني، والمثقفون وغيرهم وفق رؤية واستراتيجية واحدة قدر الإمكان، لتحقيق التأثير الأكبر.

داود أوغلو الذي أصبح وجه تركيا في أوروبا، لطالما أدرك أن النجاح على الساحة الدولية يجب أن يستند إلى قوة مستمدة من سياسة داخلية ناجحة، ينتج عنها جبهة داخلية ثابتة ومتماسكة، الأمر الذي يتطلب استقرارًا سياسيًا، ونموًا اقتصاديا، وحماية لحقوق الإنسان، والبيئة، وخلق مناخ ديمقراطي عادل يحتوي الجميع.

ومنذ أن تسلم عام 2009م حقيبة الخارجية التركية، سعى إلى تطبيق مبدأه الذي ابتكره والمعروف اصطلاحا باسم "صفر مشاكل"، فيما يخص الخلافات مع دول الجوار -أي غلق جميع الملفات العالقة، وحلها حلاً يرضي الجميع-، واستطاع بفضل ذلك التوجه لحل الكثير من المشاكل المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية.

كما وصل في مرحلة ما، إلى حلول مرضية مع أكراد بلاده، الذين يقودون تمردًا عنيفًا ضد الدولة التركية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا من الجانبين.

كما تُحسب له قيادة ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بطريقة مبتكرة، إضافة لكل ذلك استطاع التوصل إلى حلول مع الجيش التركي، الذي تمتع بسطوة على المشهد السياسي التركي، منذ انهيار الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.

داود أوغلو، المتزوج والأب لأربعة أبناء، نشر العديد من الكتب والمقالات في السياسة الخارجية باللغتين التركية والإنكليزية، وترجمت مؤلفاته إلى العديد من اللغات كالعربية واليابانية والبرتغالية والروسية والفارسية والألبانية.

كما اختارته مجلة "فورين بوليسي" في العام 2010م ضمن أهم مائة مفكر في العالم، باعتباره أحد أهم العقول التي تقف وراء نهضة تركيا الحديثة، وفي العام 2011م، اختارته المجلة أيضًا هو وأردوغان ضمن القائمة، لدورهما في التفكير في دور جديد لتركيا في العالم والعمل على تحقيقه.

ويتبنى داود أوغلو -الذي يتحدث الإنجليزية والألمانية والعربية إضافة إلى التركية- عددا من الأفكار التي توصل إليها في بحوثه الأكاديمية، ومن بينها ضرورة خروج تركيا من الدور الإقليمي المحدود، إلى أفق التأثير في السياسة الدولية، وما ينتج عنها من جعل تركيا قوة سياسية مستقلة.

كما عرف بموافقه المناصرة للشعوب المظلومة في العالم، ابتداءً من غزة، ووصولًا الى بورما، فمنذ أيامه الأولى في الحكومة التركية، صرح بأهمية التوصل إلى حلّ للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني السوري، ودعا لدور تركي فاعل في هذا المسار، وكان له مساعي جمة للإعتراف بحكومة حماس ككيان سياسي شرعي بعد فوزها في انتخابات عام 2006 في غزة، فلم تلاق صدى إيجابيا في واشنطن وتل أبيب.

بيد أن التحرك التركي لمناصرة شعوب المنطقة العربية والإسلامية، لم يرُق لمعظم مراكز صنع القرار في الغرب، ولبعض العواصم العربية كذلك، والتي عملت على معادّاة تركيا، وإحاكة المؤمرات لها.

إلاّ أن تركيا وقادتها وعلى رأسهم أردوغان وأغلوا نجحوا في الفوز بتأييد الشارع العربي، والرأي العام في بقاع كثيرة من العالم، حتى باتت تركيا بطلة ليس في عيون الأتراك وحسب، بل بعيون الأمة العربية والإسلامية.