مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث
ملخص
لا يمكن أن يُعَدَّ الهدف من حزمة التعديلات الدستورية الأخيرة في تركيا تغييرَ النظام البرلماني إلى رئاسي فحسب؛ بل إنها معركة مفصلية قد تسدل الستار على حقبة زمنية طويلة من تاريخ الصراع مع المؤسسة العسكرية؛ وذلك بإلغاء محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم العسكرية الإدارية العليا، وتحويل جميع القضايا العسكرية إلى محاكم مدنية استئنافية.
حتى الآن تميل الكفة لمصلحة التعديلات الدستورية (نعم)، وبنسبة متفاوتة تراوح بين 3% و6%، يعزز ذلك النشاط الملموس للتوعية بإيجابيات النظام الرئاسي وعائداته، ولكن لا يعني ذلك أن المناخ خالٍ من التحديات؛ فلدى المعارضين للنظام الرئاسي ما يقولونه في هذا الصدد.
على مستوى التحالفات السياسية؛ ألقت التعديلات الدستورية الأخيرة بظلالها على خريطة التحالفات السياسية التركية المعهودة، حيث أسست شكلاً جديداً من التحالفات قد تستمر طويلاً، ويبقى التحدي أمام حزب العدالة والتنمية في إمكانية تحقيق التوازن بين الحركة القومية وبين الأقليات الإثنية والقومية الأخرى، لا سيما الأكراد منهم، الذين يشعرون بحساسية كبيرة حيال التقارب مع حزب الحركة القومية (قومي تركي)، وسيزيد من تلك الحساسية أن تُمنح الحركة القومية مناصب عليا في الدولة، وهذا أمر متوقع، ضمن صفقة التحالفات مع الحزب الحاكم.
مقدمة
تحت شعار (من أجل تركيا القوية)، استطاع حزب العدالة والتنمية، بعد قرابة خمسة عشر عاماً من الصراع مع أركان الدولة العميقة، تمرير مشروع نظام الحكم الرئاسي وإخراجه من قبَّة البرلمان إلى فضاء الاستفتاء الشعبي المزمع إجراؤه في منتصف أبريل/نيسان المقبل، وإلى ذلك الوقت، سيشهد الشارع التركي جدلاً واستقطاباً حادَّين، بين مؤيدي النظام الرئاسي، أو ما بات يعرف بجبهة نعم ((Evet cephesi بقيادة حزب العدالة والتنمية، وبدعم من حزب الحركة القومية (القومي التركي)، وبين المعارضين له وهم جبهة لا cephesi) (hayır التي يتزعمها حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) بالتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، يأتي هذا بعد إخفاق الأحزاب الأربعة في التوافق تحت قبة البرلمان، وهو ما جعل العودة إلى الشعب الحلَّ الأخير للفصل في الأمر.
في الثاني من فبراير/ شباط 2017 صوَّت 338 نائباً من أعضاء البرلمان التركي تأييداً لمشروع التعديل الدستوري، وهي نسبة تؤهله للاستفتاء الشعبي، لكنها لا تؤهله للمناقشة المباشرة داخل البرلمان، التي تتطلب 367 صوتاً، في حين رفضه 134 نائباً. ويذكر هنا أن بعض البرلمانيين رفضوا الانصياع لقرارات أحزابهم، وخصوصاً أعضاء الحركة القومية، إذ لم يصوت لمشروع التعديلات سوى 21 صوتاً من أصل 40 عضواً لها في البرلمان، بالإضافة إلى أصوات العدالة والتنمية البالغ عددهم 317، إذا افترضنا أن أعضاء العدالة والتنمية صوتوا كلهم للمشروع، وهذا يشير إلى حالة تماوج المواقف السياسية، سواء على مستوى الأفراد أو الكتل السياسية أو حتى الأقليات القومية والإثنية.
وعلى الرغم من نتائج الاستطلاعات التي تشير إلى تقدم جبهة (نعم) بنسبة ضئيلة تراوح بين 3% و6%، فإن المهددات والأخطار التي تثيرها جبهة (لا)؛ مثل احتمالات العودة للديكتاتورية والانقلاب على الديمقراطية، التي يرى الشعب التركي أنها المكسب الذي لا يمكن التفريط فيه، تبدو أسهل ترويجاً ووصولاً للمواطن من تفسير مميزات النظام الرئاسي وانعكاساته الإيجابية على الأمن القومي والتنمية الاقتصادية والحقوق والحريات، خاصة أن الشعب لم يتشبع بعدُ بتفاصيل المواد الدستورية الـ 18. فهل يستطيع أردوغان وأنصاره إقناع الشارع التركي، والرد على شبهات المعارضة خلال الـ 60 يوماً المقبلة، وتوظيف تجربة تركيا المريرة مع الحكومات الائتلافية ومحاولة الانقلاب الفاشلة؟
ثمة تخوفات لدى حزب العدالة والتنمية وحلفائه من الأثر السلبي الذي تركه خطاب الرئيس أردوغان عن النظام الرئاسي في انتخابات السابع من يونيو/حزيران عام 2015م، الذي كان أحد أسباب عدم حصول حزب العدالة والتنمية على أصوات كافية تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً، وهو ما اضطره إلى خوض انتخابات نيابية مبكرة، حاول الحزب فيها الابتعاد عن التطرق للنظام الرئاسي.
تبحث هذه الورقة ديناميات الاستفتاء، ونتائجه المتوقعة، وانعكاس ذلك على مستقبل التركيبة السياسية التركية.
التعديلات الدستورية.. نظرة تاريخية
الدعوة إلى النظام الرئاسي مطلب قديم جديد في تركيا، فقد طالب بذلك الرئيس (تورغوت أوزال)، ومن بعده الرئيس (سليمان ديميرال) الذي قال: "كنت أفضل أن أجلب النظام الرئاسي إلى تركيا، وهذا الأمر عقدة في داخلي لأنني لم أتمكن من تطبيقه". وطالب بذلك أيضاً نجم الدين أربكان، وقرَنه بالتنمية والاستقرار السياسي، أما زعيم الحركة القومية السابق (ألب أرسلان توركيش) فكان أكثر تشدداً حول تطبيق النظام الرئاسي، فقد قال: "إن عصرنا هو عصر السرعة والقوة، لذلك ندافع وفق ما يليق بتاريخنا وتقاليدنا عن النظام الرئاسي". ولعل هذه المقاربة التاريخية هي سر وقوف حزب الحركة القومية اليوم إلى جانب حزب العدالة والتنمية في معركة التعديلات الدستورية من أجل اعتماد النظام الرئاسي، ولا شك أن المطالبات السابقة جاءت في وقت كانت المؤسسة العسكرية لا تزال تسيطر على الحياة السياسية التركية أكثر مما هي عليه اليوم، ويرى كثيرون أن تغلب حكومة العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان على محاولتَي الانقلاب العسكرية (2009 – 2016) قلص من نفوذ المؤسسة العسكرية في القرار السياسي التركي، لا سيما محاولة الانقلاب الأخيرة، التي تعد أحد أهم فرص نجاح الاستفتاء الحالي.
تاريخياً، مر الدستور التركي الحالي بسبع عشرة حزمة من التعديلات، منذ العام 1987 إبان حكم الرئيس تورغوت أوزال وحتى العام 2011، منها ثلاثة استفتاءات شعبية (1987، 2007، 2010)، اثنان منها في عهد حزب العدالة والتنمية، وكانت هذه التعديلات تدور حول المشاركة السياسية، والحريات العامة والخاصة، والشؤون القانونية والمدنية، وعلى الرغم من تعديل أكثر من ثلثي المواد الدستورية، بل إن بعض المواد عُدِّلت أكثر من مرة؛ تارة بإضافة فقرة وتارة بحذف أخرى، لكنَّ أحداً لم يجرؤ على المساس بمواد تتعلق بنظام الحكم كما هو حال الاستفتاء الحالي؛ وذلك لحسابات كثيرة، أهمها ضلوع المؤسسة العسكرية في الحكم، وضعف دور الشعب في المعادلة السياسية آنذاك.
ومؤخراً في عهد رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، شُكِّلت لجنة لصياغة دستور جديد بالتوافق بين جميع الأحزاب، لكن اللجنة لم تنجح في تجاوز الخلافات على مواد الدستور، وذلك ما أدى إلى توقفها عن مواصلة عملها، وكانت- بطبيعة الحال- آخر محاولة قبل الاستفتاء الحالي.
الدستور من البرلمان إلى الشعب
نقْل الدستور من البرلمان إلى الشعب للموافقة عليه أتى بعد مواقف عززت هذا النقل، يمكن إيجازها في النقاط الآتية:
انتخاب الرئيس من قبل الشعب:
مثَّل فوز الرئيس أردوغان في أول انتخابات رئاسية مباشرة، في أكتوبر/تشرين الأول 2014، الخطوة العملية في طريق التحول إلى النظام الرئاسي، إذ إنه لا يمكن لرئيس منتخب أن يبقى رئيساً صورياً منزوع الصلاحيات، وقد أعلن الرئيس أردوغان ذلك صراحة، من أنه لن يكون كأسلافه، فهو رئيس منتخب من قبل الشعب، ومن ثم فإن تضارب الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية؛ رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، أمر متوقع، وهو ما يزيد من ضرورة الدفع نحو اعتماد النظام الرئاسي خياراً للخروج من تبعات ازدواجية السلطة التنفيذية.
موقف الحركة القومية من محاولة الانقلاب:
أسهمت محاولة الانقلاب في تنامي الشعور الشعبي بالخطر الدائم وزعزعة ثقة الشعب في النظام البرلماني، والأهم من ذلك أن حزب الحركة القومية شعر بالخطر الوجودي ممن يقف وراء الانقلاب العسكري، نتيجة عدائه التاريخي مع ما يعرف بالنظام الموازي (جماعة كولن)، وهو ما دفعه للتقارب مع حزب العدالة والتنمية دون تردد، من أجل تثبيت نظام قوي ديناميكي، لديه القدرة على اتخاذ القرارات السريعة لمواجهة الأخطار والتعامل مع أي طارئ، فضلاً عن قناعة الحركة القومية بأهمية النظام الرئاسي منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكن زعيم الحركة القومية (دولة بهجلي)، لم يوافق على طرح دستور جديد كما كان يسعى إليه حزب العدالة والتنمية، بيد أنه لم يعترض على إجراء حزمة من التعديلات، تتلخص في 18 مادة، معظمها تختص بصلاحيات الرئيس ومجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، وكذلك المجلس الوطني التركي الكبير، إضافة إلى إغلاق محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم الإدارية العسكرية العليا. بهذا استطاع حزب العدالة التنمية تخطي حاجز 330 لينتزع مقترح النظام الرئاسي إلى ساحة المنافسة الشعبية التي يجيد العمل فيها.
فرص نجاح الاستفتاء
على الرغم من التحديات الماثلة أمام مشروع التعديلات الدستورية، فإن هناك فرصاً فرضتها الأحداث الأخيرة في تركيا، يمكن إيجازها في النقاط التالية:
الرئيس أردوغان:
تعد شخصية الرئيس أردوغان عاملاً رئيسياً لكسب ثقة الشعب التركي المحب للقائد القوي، حتى إن بعضهم بات يتساءل: ماذا بعد أردوغان؟ حتى إن الرجل يعد النظام الرئاسي هو من سيحدد مستقبل تركيا ونفوذها على الساحة الدولية.
لكن شخصية أردوغان في نظر آخرين تمثل مصدر قلق للمعارضة ولبعض الدول الخارجية، لذلك ستفعل ما بوسعها للحيلولة دون امتلاكه صلاحيات كاملة، وقد باتت الصحف الغربية تتحدث عن المدة المحتملة التي سيحكم فيها أردوغان تركيا، وأنه سيستمر حتى 2029.
فوبيا الحكومات الائتلافية:
إن تجربة الأتراك مع الحكومات الائتلافية تجربة مريرة وحافلة بالصراع السياسي والإخفاقات الاقتصادية، ومن هنا جاء شعار: "وداعاً للحكومات الائتلافية" ضمن حملة مؤيدي التعديلات الدستورية، فالحكومة التي سيشكلها الرئيس ستكون أطول عمراً؛ لأنه لا يحق للبرلمان أو الأحزاب إسقاطها أو اختيار أعضائها، بمعنى أنها ستكون حكومات تكنوقراط يختارها الرئيس نفسه.
التحديات الاقتصادية والأمنية:
أصبح الشعب التركي يدرك حساسية الوضع في محيط تركيا، وسعي بعض القوى الدولية لتحجيم دورها، لا سيما بعد تراجع الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي في الآونة الأخيرة، فضلاً عن ضلوع الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة الانقلاب الفاشلة، هذا بطبيعة الحال سيدفع الأتراك إلى البحث عن سلطة قوية، قادرة على التعامل مع أخطار كهذه، والوقوف في وجه التحديات الأمنية والاقتصادية، بصرف النظر عن المثالية الديمقراطية.
التحالف مع حزب الحركة القومية:
تشكل القاعدة الشعبية لكل من حزب الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية ما يقارب 60%، غير أنها قاعدة متحركة، خصوصاً في ظل التباينات الموجودة داخل حزب الحركة القومية، وموقف الأكراد داخل العدالة والتنمية من التحالف مع الحركة القومية، ويشكل المترددون (المنطقة الرمادية) ، ومن ثم فإن كفاءة الآلة الإعلامية والترويجية لحزب العدالة والتنمية ستمكنه من حصد أكبر نسبة ممكنة.
معارضة حزب الشعب الجمهوري:
المعارضة الدائمة للحزب الجمهوري أفقدته مصداقيته أمام الناخب التركي، خاصة الفئات غير المسيسة (المنطقة الرمادية)، فأصبح الناس يأخذون حديثه من باب المناكفات السياسية، وقد ذكر ذلك أحمد داوود أوغلو في إطار تعليقه على زعيم حزب الشعب الجمهوري، حين قال: يعارض من أجل المعارضة.
موقف حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي):
إن موقف الحزب الكردي من الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، وتواصله مع روسيا إبان الأزمة المستعرة بينها وبين تركيا، على خلفية إسقاط المقاتلة الروسية، مثّل حالة من السخط داخل الأوساط التركية، ويُظهر موقف الشارع من قضية سجن قيادات الحزب نوعاً من عدم التعاطف.
الاستشهاد بالنظام الأمريكي والفرنسي:
يدعم هذا الاستشهاد من فكرة النظام العصري والاستقرار السياسي، ومن الملاحظ أن الرئيس أردوغان يكثر من ذكر ذلك في خطاباته، لتطمين الشعب، ورداً على شبهات المعارضين حول مستقبل الديمقراطية في البلاد، كما أن تخفيف سن الترشح لمجلس النواب إلى 18 عاماً، كانت نقطة مدروسة ومدعمة للمشروع الكبير وهو (النظام الرئاسي).
تحديان في طريق الاستفتاء
التحدي الأول: منذ زمن طويل والشعب التركي ينظر إلى البرلمان، أو (المجلس الوطني الكبير)، على أنه السلطة الشرعية والممثل الأول لصوت الشعب أمام الحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى، وفي لحظة مفاجئة تصبح هذه المؤسسة مفرغة من معظم صلاحياتها المعتادة، لتتحول إلى شخص الرئيس، وهذا سيكون له تأثيره البالغ في كسب أصوات المواطنين، وحثهم للدفاع عن مجلس الأمة.
التحدي الثاني: شكل حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه مظلة سياسية وطنية، تنضوي تحتها أقليات عرقية وجماعات دينية مختلفة، ولم يُحسب الحزب يوماً على تيار بعينه، وهو الحزب الوحيد الذي يمتد على الجغرافيا التركية جميعها، بيد أن تقاربه الحالي مع الحركة القومية قد تكون له ارتدادات عكسية من بعض الأقليات والطوائف، وتحديداً المكون الكردي، وهذا بطبيعة الحال تحدٍّ سيستثمره مناوئو النظام الرئاسي في هذه الحملة وبعدها.
ختاماً
تمر الساحة السياسية بحالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، وما تبعها من اعتقالات، وفرض قانون الطوارئ الذي لا يزال سارياً، وهذا ينمي حالة من عدم التيقن بما سيسفر عنه الاستفتاء، إلا أن المحددات السابقة تخدم إمكانية نجاح النظام الرئاسي، لكن الأمر لا ينتهي بانتهاء الاستفتاء، فمرحلة ما بعد الاستفتاء- أياً كانت النتيجة- ليست كما قبلها، فالعودة للنظام البرلماني تعني دخول البلاد في جولات انتخابية وسجال سياسي طويل، وفي حال مضى النظام الرئاسي، ولم تكن هناك ردة فعل من الدولة العميقة، ومن تبقى معها في مؤسستي الجيش والقضاء، فإن تركيا قد تصل إلى خطتها المستقبلية في عام 2023.
ويبقى التوفيق بين الأكراد والقوميين الأتراك تحدياً يواجه حزب العدالة والتنمية الذي يحتاج إلى الاثنين معاً في المستقبل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!