د. إبراهيم حمامي - خاص ترك برس
منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو الماضي وموجة من العداء الواضح شبه الرسمية تعم الدول الأوروبية ضد تركيا وقيادتها في ظاهرة ليست الأولى من نوعها.
لكن المثير ما يجري اليوم من مواقف وإجراءات على الأرض خرجت من حيز القول إلى حيز الفعل ضد تركيا كدولة ذات سيادة، وضد المواطنين الأتراك في بلدانهم الأوروبية، وبتبنٍ رسمي وصل حد بث برامج تحريضية باللغة التركية في التلفزيونات الرسمية في عدد من الدول الأوروبية.
النمسا، وألمانيا، وسويسرا وهولندا تتزعم المشهد العدائي ضد تركيا، وفي منحنى تصعيدي وصل حد منع وزير الخارجية التركي من الهبوط في هولندا، وترحيل وزيرة الأسرة التركية إلى المانيا من هناك بعد منعها من دخول قنصلية بلادها في روتردام، واستخدام القوة والكلاب لتفريق مواطنين هولنديين من أصول تركية حاولوا لقاء الوزيرة.
ربما أمل الأوروبيون في نجاح الانقلاب حينها لإسقاط تجربة سياسية واقتصادية ناجحة بشعار إسلامي ومرجعية تفخر بالتاريخ العثماني، وهو ما يراه الغرب بشكل عام خطرًا داهمًا على تجاربهم المترنحة اقتصاديًا.
ليس من مصلحة الغرب نجاح التجربة التركية، ولا أي تجربة إسلامية أخرى، وهو ما يبرر العداء لمهاتير محمد في ماليزيا قبل سنوات، والدعم الغربي للسيسي في إسقاط رئيس منتخب بدأ يحقق النجاح الاقتصادي في بلده، وأخيرًا معاداة حزب العدالة والتنمية التركي رغم التأييد الشعبي الساحق له.
لا يتعلق الأمر بالديمقراطية أو بالحقوق كما يحلو للغرب الترويج له، فالديمقراطية التي يقبل بها الغرب هي التي تفرز نتائج تتماشى معهم، ودون ذلك يتم إجهاضها والتآمر عليها وإسقاطها، ومن ثم دعم الديكتاتوريات تحت ذرائع شتى.
كذلك لا يتعلق الأمر بحرية التعبير، ففي الوقت الذي تسمح فيه الحكومات الغربية لكل من هب ودب بأن يتهجم ويتعرض للاسلام والمسلمين وبأبشع الصور والعبارات، وبالرسوم المسيئة للرموز الدينية، وبنشر الأكاذيب المفضوحة، تعمل ذات الحكومات على قمع وتكميم أفواه كل من لا يعجبهم طرحه حتى وإن كان قانونيًا تمامًا، وما محاولات تجريم حملات المقاطعة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ببعيدة عنا.
ما الذي يزعج الأوروبيين من التعديلات الدستورية التي سيتم الاستفتاء عليها الشهر المقبل؟
هل هو حب الأتراك أم الحرص على مصالحهم؟
الموقف الأوروربي لا يأتي لا حبًا بالأتراك ولا من باب الحرص على "حرياتهم" في تركيا أو خارجها، وهو ما يردده الإعلام الغربي وكذلك المسؤولين في الدول الأوروبية من باب حرصهم على "الانقلابيين" واستنكارهم للإجراءات التي تقوم بها الحكومة التركية لحفظ البلاد منهم، رغم أن بعض تلك الدول التي تنتقد تركيا أعلنت حالة الطوارئ، وألغت الحريات وجمدت القوانين، عقب عملية إرهابية واحدة، بينما تستكثر اتخاذ الأتراك من الإجراءات ما يمنع وقوع عمليات إرهابية ما زالت تركيا عرضة لها.
في ورقة لمركز صناعة الفكر للدرسات والأبحاث نقرأ التالي:
"لا يمكن أن يُعَدَّ الهدف من حزمة التعديلات الدستورية الأخيرة في تركيا تغييرَ النظام البرلماني إلى رئاسي فحسب؛ بل إنها معركة مفصلية قد تسدل الستار على حقبة زمنية طويلة من تاريخ الصراع مع المؤسسة العسكرية؛ وذلك بإلغاء محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم العسكرية الإدارية العليا، وتحويل جميع القضايا العسكرية إلى محاكم مدنية استئنافية".
هنا تكمن مشكلة الغرب...
أي تثبيت دعائم نجاح التجربة التركية...
حتى وإن كان النظام الرئاسي المقترح في التعديلات شبه متطابق مع النظام السياسي الأمريكي...
لكنها ديمقراطية تصلح هناك ولا تصلح هنا لأنها تتعارض مع مصالحهم!
متابعة الردود التي جاءت على حساب وزيرة الأسرة التركية على التويتر باللغة الانجليزية يثير الغثيان من شدة التطرف والكراهية والعنصرية التي جاءت من أسماء وشخصيات أوروبية لم تكتف بالتهجم عليها، بل تجاوز ذلك للتهجم على كل شيء إسلامي وبحقد غير مسبوق...
من الواضح أن حملة العداء التي تستهدف تركيا اليوم ذات أبعاد أكبر من حدود الدولة التركية، ويكفي أن نتابع ما يقال ويبث أوروبيًا لنتأكد أنها حملة معادية للإسلام والمسلمين بكل أطيافهم ضمن ما يصطلح على تسميته بالإسلاموفوبيا.
لكن ليس أي إسلام!
إنه العداء للإسلام الوسطي الصحيح الناجح والذي يمكن أن يمثل أسلوب حياة وإدارة دولة ناجحة، كما هو النموذج التركي...
النموذج الذي لا يريده الغرب ولا يخدم هدفه في تشويه صورة الإسلام...
أما نموذج داعش المشوه والمنحرف والبعيد عن تعاليم الإسلام الحقيقية، فربما وجد فيه الغرب ضالته فنفخ فيه وضخمه ولا نبالغ إن قلنا ساعده على البروز إعلاميًا، لإبعاد وتنفير الناس منه، ولشيطنة الإسلام والمسلمين...
إنه نموذج الكراهية والتطرف الذي تتبناه أوروبا اليوم بكل أسف...
لا يختلف إن كانت كراهية البغدادي في الموصل أو سياسيين كلوبان في فرنسا وفيلدرز في هولندا...
مختصر القول:
الغرب يرى في نجاح أي تجربة إسلامية سياسية خطر...
معاداة الغرب لأي تجربة إسلامية لا يتوقف...
من ماليزيا للانقلاب في مصر ودعم السيسي...
إلى معاداة تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة...
العداء ليس لتركيا بل للإسلام كنظام حياة ناجح...
نجاح تركيا كتجربة إسلامية هو ما يستعديهم...
نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا بالنسبة للغرب أخطر بكثير من نموذج داعش...
ما يحدث بين تركيا وأوروبا أسقط آخر ورقة توت...
وأسقط التغني بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان...
لا شك أن تركيا ستخرج أقوى من هذه المواجهة بدعم الأتراك للإصلاحات في بلادهم...
ولا شك في أن المواقف الأوروبية العنصرية الأخيرة ستأتي بنتائج عكسية...
تمامًا كما حدث بعد قرارات الرئيس الأمريكي ترامب ضد المسلمين...
هذه سنة الكون...
فلا يمكن أن تنتصر الكراهية والبغضاء مهما علت
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس