جلال سلمي - خاص ترك برس
حل وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، في 29 مارس/ آذار الجاري، ضيفًا على العاصمة الروسية موسكو، للقاء نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في إطار المساعي المتبادلة بين البلدين لبحث العلاقات الثنائية، والقضايا الإقليمية ذات القواسم المشتركة، لا سيما القضية السورية.
ترسم بعض الآراء التحليلية تتالي الزيارات التركية رفيعة المستوى إلى موسكو، والتي تمثلت بزيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في العاشر من الشهر الجاري، ومن ثم زيارة وزير الخارجية لها في نفس الشهر، على أنها زيارات تعكس التقارب "الوطيد" بين الطرفين اللذين باتا على شفير بناء تحالف عسكري استراتيجي.
في الحقيقة، على الرغم من ظهور بعض أشكال التقارب التركي الروسي، لا سيما بعد زيارة أردوغان الأخيرة، إلا أنه من ناحية واقعية ظهرت للسطح عدة مؤشرات تبيّن من خلالها وجود توتر واضح بين الطرفين، ويعود هذا التوتر إلى التنافس العسكري والسياسي القائم بين الطرفين، ليس في القضية السورية وحسب، بل في عدة قضايا أخرى.
وربما يُقيّم الحديث عن توقيع اتفاقيات اقتصادية بين الطرفين على أنه إيجابي في رفع مستوى العلاقات المتبادلة بين الطرفين، لكن هذه الاتفاقيات لا تعدو، في الوقت الحالي على الأقل، عن كونها مجرد عناصر تزيد التعاون الاقتصادي المترابط بين الطرفين، إلا أنها تعجز عن تحويل العلاقات بينهما من مستوى التعاون الاقتصادي إلى مستوى التعاون العسكري المتداخل، فالاتحاد الأوروبي الذي تجتمع دوله على أساس التعاون الاقتصادي المترابط منذ ستين عامًا، أخفق إلى الآن في إنشاء قاعدة دفاع مشتركة، فأغلب دوله إلى تعتمد الآن على "الناتو" والولايات المتحدة لحماية أمنها القومي ضد التهديدات الخارجية، فكيف للترابط الاقتصادي القائم بين تركيا وروسيا منذ أقل من 20 سنة فقط، أن يتحول إلى حلف عسكري استراتيجي وثيق؟
يبدو من الصعب في وقتنا الحالي توقع ميل تركيا بشكل تام إلى القطب الروسي كبديل للقطب الغربي، أيضًا من غير الصائب توقع تضحية روسيا بإيران "المضادة للنهج الغربي" لتحقيق تقارب أكبر مع تركيا التي لا زالت وفقًا للاتفاقيات والعهود أحد أوتاد القطب الغربي الرامي إلى الحيلولة دون إحراز روسيا المزيد من النفوذ.
مؤخرًا، تجسد المؤشرات المذكورة في ارتفاع وتيرة التحركات العسكرية لفصائل المعارضة السورية، المعروف عن بعضها تلقي الدعم التركي، على عدة جبهات، وعدم مشاركة المعارضة في "آستانا 4"، "بدفعٍ تركي"، كون تركيا المنسق الأول لوفد المعارضة المشارك في سلسلة مؤتمرات "آستانا"، وأنباء عن انتشار قوات روسية في "عفرين" المحاذية للحدود التركية، ومن ثم اتجاه تركيا للرد على ذلك التحرك الروسي العسكري القريب من حدودها عبر زيادة وجودها العسكري في بلدة "عزاز" القريبة من "عفرين"، بالرغم من عدم وجود تلك البلدة في مسار معركة "درع الفرات"، بالإضافة إلى استدعاء تركيا القائم بالأعمال الروسية والتعبير عن استيائها من مقتل جندي تركي من قبل وحدات الحماية الكردية، والتعبير عن "عدم ارتياحها" لإقامة روسيا قاعدة عسكرية في "عفرين"، إلى جانب تجديد رفضها لضم روسيا "لجزيرة القرم"، فضلًا عن نشوب خلافات اقتصادية بين البلدين حول المواد المستوردة من كليهما، فبينما علقت روسيا استيراد الطماطم وبعض الخضار ذي المنشأ التركي، في الوقت نفسه أوقفت تركيا تراخيص استيراد بعض منتجات الحبوب الروسية، كالقمح والذرة.
إن روسيا وتركيا تُظهران، دومًا، أنهما على نية لتأسيس شراكة استراتيجية، إلا أن مؤشرات التوتر التي تظهر بينهما في الوقت الحالي، تؤكد أنهما لا زالتا في طور رسم نوعية تلك الشراكة التي لا زالت قيد محاولات الطرفين المتبادلة لبلورتها. وهذا ما دفعهما، على ما يبدو، لترتيب لقاءٍ دبلوماسيٍ رفيع المستوى يجمع قطبي مطبخ الشؤون الدبلوماسية لكلا البلدين، أي وزيرا الخارجية، بغرض مناقشة "المجهول" ورفع "الضبابية"، ولو جزئيًا، عن التطورات التي ظهرت للسطح مؤخرًا.
ومن المرشح أن تتسنى في لقاء لافروف وتشاووش أوغلو نقاشات تأخذ من الأسس التي وضعها الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان خلال لقائهما الأخير الذي تم في 10 مارس/ آذار، والذي كان محوره الأساسي النظر في إمكانيات التعاون المشترك للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، مرجعًا لها.
وفي ضوء تلك الأسس، وفي إطار المسعى المشترك للحفاظ على "توازن القوى" في سوريا بشكل نسبي لصالح البلدين، قد يؤكد تشاووش أوغلو، خلال اللقاء، على رغبة بلاده في الاستمرار بالتعاون المشترك مع روسيا، على إثر فقدان بلاده الأمل في التعاون مع الجانب الأمريكي الذي اتجه للتنسيق مع روسيا ووحدات الحماية الكردية على حساب الخطط التركية؛ فتركيا لا زالت دولة "في حالة دفاع" في سوريا، وتحتاج إلى دولة "هجومية كبرى"، كروسيا أو بريطانيا أو الصين، تمثل لها جسرًا تحقق من خلاله الحد الأدنى من المكتسبات المطلوبة.
ولعل تكرار الزيارات التركية لموسكو يفسر ذلك، حيث تناور تركيا لجعل روسيا الدولة "الهجومية" التي تحقق لها ما ترنو إليه من تعاون يصب في مصالحها، ولربما تحاول تركيا رفع وتيرة التوتر مع روسيا، بشكل مقصود، لتشكيل ضغطٍ سياسي واقتصادي وميداني يجبرها على أخذ مطالبها بعين الاعتبار، ولو بالحد الأدنى وعلى صعيد تكتيكي.
والملموس من التوترات المتواترة بين البلدين، أنهما مرغمتان على إبقاء روح الخلاف هادئة خوفًا من اضمحلال الفائدة المتبادلة التي تربط المصالح الاقتصادية للطرفين بشكل وثيق، لكن على صعيد استراتيجي يبدو من الصعب تحقيق الطرفين تحالفًا سياسيًا وأمنيًا متينًا، فالطرفان يطبقان سياسات خارجية قائمة على التنافر والتنافس، فبينما تركيا عادت لترتدي ثوب "العثمانية الجديدة" الحاملة لروح إعادة ربط أواصر التقارب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي مع دول البلقان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، ارتدت روسيا ثوب "القيصرية الروسية" الموصوفة باسم "أوراسيا الكبرى"، والساعية للإبقاء على دول الحديقة الخلفية لروسيا، كدول البلقان ووسط أسيا، تحت جناح النفوذ الروسي، وتحويل تلك الدول إلى "أعمدة" تستند عليها روسيا في مقارعة "أعمدة" القطب الغربي، مع النظر في إمكانية تأسيس "أعمدة" مماثلة في منطقة الشرق الأوسط.
وبالتأمل في مشاريع الطرفين نجد أنها تحمل روح التنافر والتضارب الجغرافي السياسي المحتدم، تلك الروح التي تعود جذورها التاريخية إلى التناحر الذي ظهر بين الدولة العثمانية، سلف الجمهورية التركية، والقيصرية الروسية، سلف روسيا الاتحادية، في منتصف القرن السادس عشر واستمر خلال حقبة الحرب الباردة، وعاد اليوم ليبزغ من جديد، ولكن بحلةٍ جديدةٍ ظاهرها التحالف وباطنها التنافس.
وفي الحصيلة، مع تنامي روح التوتر التركي مع الاتحاد الأوروبي، ومع تأكيد أروقة البيت الأبيض عزمها على التعاون مع وحدات الحماية الكردية على حساب تركيا في عملية تحرير الرقة، بدت تركيا مضطرة لإظهار نفسها أنها لا تعيش عزلة على الساحة الدولية، عبر مغازلة روسيا بتصريحات تفيد بأنهما باتتا قاب قوسين أو أدنى من إحراز التقارب السياسي والأمني الاستراتيجي، إلا أن مؤشرات التوتر المذكورة تبين أن هذه التصريحات ما هي إلا تصريحات شكلية؛ فالعوائق الظاهرة أمام تقارب الطرفين في الوقت الحالي، توحي بأن تقاربهما الاستراتيجي يبدو صعب التحول إلى واقع في المنظور القريب، وحتى المنظور البعيد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس