د. علي حسين باكير - القبس الإلكتروني
جدد مسؤولون أميركيون تهديدات سابقة، بفرض عقوبات على تركيا، وذلك على خلفية تنامي العلاقات بين أنقرة وموسكو مؤخراً، كما حذّر هؤلاء من عواقب محتملة، قد تطال أنقرة إذا لم تقم بالإفراج عن القس الأميركي أندرو برنسون، الموقوف في مدينة إزمير منذ عام 2016 على ذمّة اتهامات تتعلّق بالتجسس والإرهاب.
وفي شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، عبّر ويس متشل، مساعد الوزير للشؤون الأوروبية والأوراسيّة، عن القلق العميق إزاء عدم إخطار أنقرة لواشنطن بالترتيبات التي تمّت بين الجانبين التركي والروسي قبيل عملية غصن الزيتون، مشيراً الى أن الولايات المتحدة كانت صريحة مع تركيا، وأن على الأخيرة مواجهة عقوبات في حال المضي قدماً في مساعيها لشراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية «اس- 400».
متشل ذهب أبعد من ذلك، عندما هدّد بإمكانية ان تطال الانعكاسات السلبية التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وتركيا، ليقول: «كنا واضحين أيضاً فيما يتعلق بالتداعيات إزاء المشاركة المحتملة لتركيا في برنامج (اف ــ 35)، وبشكل أوسع بخصوص تعاوننا في المجال العسكري ــ الصناعي»، علماً أن التعاون العسكري بين الجانبين لا يزال العنصر الوحيد، الذي تستند إليه العلاقات الثنائية وسط الشلل السياسي وضعف العلاقات الاقتصادية.
«محاولة ابتزاز»
وإزاء هذا الوضع، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تلميح الولايات المتحدة إلى إمكانية فرض عقوبات على تركيا، بسبب شرائها منظومة «أس ــ 400» الدفاعية من روسيا، واصفاً ذلك بأنه «محاولة ابتزاز»، كما أشار لافروف الى ان الولايات المتحدة تسعى، من خلال عملية الابتزاز هذه، الى تأمين منافسة غير عادلة لمصلحة شركات السلاح الأميركية، وأنه ينبغي على الولايات المتحدة كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن تنصت الى رؤية أمين عام الحلف، الذي اعتبر الخطوة التركية «قراراً وطنياً».
وكانت بداية العام قد شهدت طرح المشرعين الأميركيين مشروع قانون لمعاقبة تركيا؛ بسبب ما يدّعون انه سياسة تركية لاحتجاز مواطنين أميركيين كرهائن. وتضمّن المشروع آنذاك فرض عقوبات على مسؤولين حكوميين أتراك وإعطاء وزير الخارجية الأميركي الحق في منع بعضهم من الحصول على الفيزا أو الدخول الى الولايات المتّحدة استناداً الى ما تقتضيه المصالح القومية للبلاد، قبل ان يتم سحب هذا المشروع لاحقاً، وذلك لإفساح المجال أمام المساعي الدبلوماسية لتأخذ مجراها كما قيل.
وتشمل قائمة الخلافات الأساسية بين الطرفين الموقف من الملف السوري ودعم الميليشيات الكردية، ووضع المعتقلين الأميركيين في تركيا، بالإضافة الى وضع المعتقلين الاتراك لدى الولايات المتّحدة، ناهيك عنالملف الابرز وهو رفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا، الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في عام 2016.
وكان الطرفان قد اتفقا على مناقشة هذه المشاكل بالتفصيل من خلال مجموعات عمل متخصصة، وهو مقترح تم التوافق عليه إثر اجتماع «الجبر أو الكسر» الشهير الذي تمّ في فبراير الماضي في أنقرة بين الرئيس رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية الأميركي آنذاك ريكس تيلرسون. لكن مع إقالة تيلرسون وتسمية مايك بومبيو لمنصب وزير الخارجية، تمّ تجميد نشاط مجموعات العمل هذه، الأمر الذي أدّى الى انقطاع الحوار الذي كان قائماً حول هذه الملفات بالتحديد.
قضية القدس
وعلى الرغم من انّ استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في دوما قد أثار نقاشات واسعة على الساحة الدولية، الأمر الذي نشّط التواصل مجدداً بين واشنطن وأنقرة، حيث لعبت الأخيرة دوراً إيجابياً في محاولة إحتواء إمكانية اندلاع نزاع ثنائي أميركي – روسيا في سوريا، فإنّ ذلك لم يكن كافياً لتحقيق خرق جديد. ولوحظ في هذا السياق أنّ الولايات المتّحدة لم تستخدم قاعدة أنجرليك في الهجوم الشكلي المحدود الذي نفذته ضد مواقع خالية تابعة لنظام الأسد، تلا ذلك محاولات لإحداث وقيعة في العلاقة بين أنقرة وموسكو على خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي أشار الى انّ الضربات التي نفذها التحالف الدولي نجحت في إحداث شرخ بين تركيا وروسيا.
هناك من يشير الى انّ واشنطن اسقطت مشروع العقوبات ضد تركيا بداية العام على امل ان يتيح ذلك الافراج عن رجلها المعتقل في إزمير، وليس اقتناعاً منها بأهمّية العلاقة مع أنقرة أو تحسباً للانعكاسات التي قد تتركها مثل هذه الخطوة على العلاقات الثنائية. وإذا ما صح مثل هذا الافتراض، فذلك يعني انّ الولايات المتّحدة منخرطة في عملية ابتزاز ضد الحكومة التركية، وأنّها لا تحترم القضاء التركي في الوقت الذي تتذرع فيه بوجود قضاء أميركي مستقل كلمّا طالب الجانب التركي بضرورة تسليم غولن.
وفي هذا السياق، يبدو أنّ الجانب الأميركي قد شعر بالغضب عندما لم تفرج محكمة إزمير عن القس برنسون في جلسة الاستماع التي عقدت منتصف هذا الشهر، حيث مددت المحكمة قرار اعتقاله وحددت جلسة استماع جديدة في شهر مايو المقبل، وهو التاريخ الذي يتصادف أيضاً مع جلسة نطق الحكم على المصرفي التركي محمد هاكان أتيلاً الذي اعتقلته السلطات الأميركية عند ذهابه اليها في رحلة عادية بتهمة خرق بنك خلق الحكومي التركي العقوبات الأميركية على إيران.
وفي اللائحة المقدمة إلى المدعي العام للمحكمة، اتُهِم برنسون بارتكاب جرائم إرهابية على صلة بتنظيمي غولن وحزب العمّال الكردستاني، والحصول على معلومات سرية مصنفة لأغراض سياسية وعسكرية، الأمر الذي يجعله يواجه إمكانية السجن لمدة قد تصل إلى 15 و20 عامًا في القضيتين. وعلّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هذا الملف في تغريدة له قبل أيام قليلة، بالقول «القس أندرو برنسون رجل نبيل، وزعيم مسيحي في الولايات المتّحدة، يُحاكم ويتعرّض للاضطهاد في تركيا من دون سبب يذكر. يقولون انّه جاسوس، لكن أنا جاسوس أكثر منه. آمل ان يُسمح له بالعودة الى أسرته الجميلة التي ينتمي إليها».
ترافق تصريح ترامب مع دعوة كل من السيناتور جيميس لانكفورد والسيناتور جينّا شاهين الى ضرورة أن تواجه الحكومة التركية تداعيات إزاء احتجاز مواطنين أميركيين.
نقل الذهب
وبموازة ذلك، كشفت بعض وسائل الاعلام التركية أوّل أمس تقارير تقول انّ البنك المركزي التركي كان قد نقل مؤخراً احتياطياته من الذهب المخزّن في الولايات المتّحدة والتي تبلغ قرابة 220 طنا الى تركيا، مضيفةً انّ بنوكا أخرى كالبنك الزراعي وبنك الوقف كانت قد بدأت عملية مشابهة لنقل 95 طنا من احتياطيات الذهب من الولايات المتّحدة الى تركيا، وهو الإجراء نفسه الذي اتخذه بنك خلق الذي نقل 29 طنا من هناك الى أنقرة.
وفقاً لتقرير البنك المركزي التركي، فقد بلغت قيمة احتياطياته في شهر مارس الماضي حوالي 25.3 مليار دولار. وتشير صحيفة يني شفق الى انّ احتياطيات البنك المركزي من الذهب تبلغ قرابة 564 طنا، فيما تشير تقارير أخرى الى انّ تركيا تحتل المرتبة العاشرة عالمياً باحتياطي ذهب يقدّر بحوالي 582 طنا وفقاً لأرقام مارس من عام 2018.
فسّر البعض هذه الخطوات على أنّها تأتي في سياق دعم الليرة التركية لا سيما مع انخفاضها مؤخراً، لكن آخرين يقولون انّ سحب احتياطي الذهب التركي من الولايات المتّحدة جار منذ عامين على الأقل، وذلك في إطار التحسّب لإجراءات أميركية تضر بالاقتصاد التركي. يتقاطع هذا الاجتهاد مع النقاشات التي جرت داخل أروقة صنع القرار في أنقرة خلال الأشهر القليلة الماضية حول ضرورة تقريب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد، مع مطالبة عدد من المشرّعين الأميركيين فرض عقوبات سياسية واقتصادية على تركيا وتحجيم التعاون العسكري الصناعي بين البلدين.
من الناحية النظرية تبدو مسألة فرض عقوبات أميركية على تركيا أمراً ممكناً، فقد قامت الولايات المتّحدة مؤخراً بفرض عقوبات على باكستان، وإسلام أباد حليف مهم أخذت العلاقة بينها وبين واشنطن تتردّى في السنوات القليلة الماضية. لكن في حالة تركيا، تبدو الامور أكثر تعقيداً، اذ انّ أي إجراءات أميركية لمحاولة تطويع أنقرة، قد تؤدي الى دفع الأخيرة أكثر فأكثر باتجاه كل من روسيا وإيران.
وإذا ما قررت الولايات المتّحدة بالفعل فرض عقوبات على تركيا خلال المرحلة المقبلة، فلا شك انّ هذه الإجراءات ستأتي بنتائج عكسية مغايرة لتلك التي يريدها الجانب الأميركي. لن تقتصر التداعيات في حينه على العلاقات الثنائية فقط، بل ستمتد بالضرورة لتطال العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وربما يتضرر الاتحاد الأوروبي كذلك، وفي مثل هذه الظروف، من الصعب تصوّر أن واشنطن قادرة على خسارة المزيد من الحلفاء في المنطقة في هذه المرحلة الدقيقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس