د. علي حسين باكير - مركز الجزيرة للدراسات
لطالما استدعت الدول الصغيرة إشكاليات مفاهيمية في حقل العلاقات الدولية وتساؤلات جوهرية أثارت ولا تزال نقاشات متعددة حول ماهية العناصر التي تحدد حجم الدولة (صغيرة أو كبيرة)، وماهية القدرات التي تجعلها (ضعيفة أو قوية)، وكيف تستطيع الدول الصغيرة الدفاع عن نفسها؟ وما الاستراتيجيات والآليات والأدوات التي قد تمكنها من ذلك؟ وهل المواجهة مع أية دولة أكبر منها تحتم عليها الهزيمة؟
معضلات قطر
في 5 يونيو/حزيران 2017، تم استحضار هذا المشهد على أرض الواقع؛ إذ قامت أربع دول، هي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر وفرض حصار عليها وذلك بعد حوالي 12 يومًا من اختراق وكالة الأنباء الرسمية القطرية (قنا) وبث أخبار وبيانات كاذبة عبرها منسوبة للأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
في حسابات الدول المناهضة للدوحة، كان من المفترض بهذه الخطوات أن تؤدي إلى استسلام قطر للأوامر التي تقوم بإملائها عليها. لقد تسلحت دول محور الحصار بالتصور القائل بتفوقها الساحق في مجال القوة التقليدية، فضلًا عن الخلل الهائل لصالحها في ميزان القوى، وهو الأمر الذي كان من المفترض ألا يترك للدوحة أية فرصة للمناورة أو الصمود، فضلًا عن المواجهة.
عززت البيئة الدولية المواتية من هذا التصور لدى دول محور الحصار لاسيما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ومشاركته في قمة الرياض، في مايو/أيار 2018، بالإضافة إلى عنصر المباغتة، وهو العنصر الذي غالبًا ما يكون حاسمًا في تحديد نتيجة المعركة أو الصراع. لكن ما حصل بعد ذلك كان مغايرًا لكل التوقعات التقليدية، ولهذا الأمر مبرراته أيضًا.
في الإطار النظري للعلاقات الدولية، هناك من يؤمن بأن الاستراتيجية هي العنصر الأهم دومًا في توقع نتائج أية أزمة أو معركة أو صراع وليس الأرقام المتعلقة بمعايير القوة التقليدية بالضرورة. وبما أن الدول الصغرى غالبًا ما تكون عاجزة عن صياغة البيئة المناسبة لها في محيطها، أو ربما حتى مجرد التأثير فيها من خلال القدرات العسكرية، فإنها تكون مجبرة على استخدام أدوات مغايرة والاعتماد على استراتيجيات مختلفة عن تلك التي تتبعها الدول الأكبر منها، لعل أهمها الاعتماد على: المنظمات والمؤسسات الدولية، والتحالفات الإقليمية أو الدولية، وسياسات التحوط والموازنة.
لقد ساعد اعتماد قطر على هذه الاستراتيجيات بدرجات مختلفة إلى تحول سريع في المعادلة مع دول محور الحصار، لكن كان على الدوحة مواجهة ثلاث معضلات أساسية في هذه الاستراتيجيات خلال الأيام الأولى من الأزمة على وجه التحديد وهو التوقيت الأكثر حساسية وأهمية:
المعضلة الأولى: أن الركون إلى المؤسسات الدولية لإفراغ إجراءات دول الحصار من مضمونها فضلًا عن استنهاض القدرات الدبلوماسية للأصدقاء حول العالم كان يتطلب الكثير من الوقت، وهو الأمر الذي لم يكن متاحًا ناهيك عن أن محصلة الاعتماد المنفرد على هذا العنصر لم تكن مضمونة.
المعضلة الثانية: أن اعتماد الدوحة سريعًا على إيران ضمن سياسة التحوط والموازنةالتقليدية قد يؤدي إلى نتائج عكسية في هذا التوقيت بالذات، فضلًا عن الحاجة إلى تعديل بعض السياسات لتتلاءم مع هذه الخطوة في ظل حقيقة تضارب المصالح بين قطر وطهران على المستوى الإقليمي خلال السنوات السبع الماضية.
المعضلة الثالثة: أن الحليف الدولي الرئيسي لقطر، أي الولايات المتحدة الأميركية، لم يعكس موقفًا موحدًا من إجراءات دول الحصار، فالخارجية والبنتاغون كانت ترفض حصار قطر، فيما أيَّد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دون تحفظ خطوات المحور المعادي للدوحة، وحثهم بطريقة غير مباشرة على المزيد من الضغط. فضلًا عن ذلك، فإن وجود حوالي 10 إلى 11 ألف جندي أميركي في قاعدة العديد، وهي مقر القيادة المركزية الأميركية في المنطقة، وأكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، لم يمنع الرباعي المعتدي من فرض الحصار وهو ما طرح علامات استفهام حول جدوى الضمانات الأمنية والاعتماد الحصري في هذه اللحظة على واشنطن.
انطلاقًا من هذه المعطيات، توجهت قطر إلى حليفها الإقليمي الأول في المنطقة، وهو تركيا، دون إهمال الاستراتيجيات الأخرى لاحقًا. وليس من المبالغة القول:إن العامل الأول والأساسي الذي أعطى الدوحة القدرة على امتصاص الصدمة، وساعدها على الوقوف على أرجلها من جديد، هو فعالية التحالف الإقليمي القائم مع الجمهورية التركية والذي لعب دورًا رئيسيًّا في إفشال سياسة دول الحصار تجاه قطر، فضلًا عن منع الأزمة من التحول إلى صراع عسكري. وتأتي كذلك في موقع لاحق أو رديف سياسة التحوط الجزئي التي اعتمدت على الانفتاح الانتقائي ذي الطبيعة الاقتصادية بالذات على إيران،بالإضافة إلى استنهاض القدرات الدبلوماسية والصداقات حول العالم والاعتماد على المؤسسات الدولية.
الحسابات السياسية للمثلث القطري-التركي-الإيراني
لم يكن من السهل في البداية على الجانب التركي اتخاذ قرار بدعم قطر في ظل الظروف الإقليمية والدولية السائدة، لكنه فعل ذلك سريعًا انطلاقًا من اعتبارات استراتيجية، وقد اضطر في النهاية إلى أن يقدم تنازلات تضمنت التقرب من إيران، بالرغم من الخلاف السائد معها في عدد من الساحات الإقليمية، وذلك لضمان وصول الإمدادات بشكل فعَّال إلى الدوحة المحاصرة.
رفضت تركيا الاتهامات التي وجهتها دول محور الحصار، وعملت سريعًا على ثلاثة محاور، سياسية واقتصادية وعسكرية، لدعم قطر. دانت أنقرة بشكل قاطع الحصار، وطالبت بإنهائه بمبادرة من السعودية عبر الملك سلمان تحديدًا، كما حافظت على الرسالة الإيجابية الموجهة عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية لحل المسألة عبر الحوار وتجنب التصعيد والتراجع عن القرارات المتخذة، وذلك بهدف الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة مع كافة اللاعبين. أرسلت السلطات التركية توجيهات إلى ممثليها في المؤسسات الدولية لدعم الموقف القطري، وتواصلت مع القوى الكبرى والدول الإسلامية لحثها على عدم الانجرار وراء موقف الرباعي المعادي لقطر، وأنشأت وزارة الاقتصاد التركية مكتبًا خاصًّا داخلها لأعضاء الوفد القطري لتسهيل إجراءات كسر الحصار من الناحية الاقتصادية.
في الحسابات القطرية، تركيا شريك استراتيجي بحكم الاتفاقية التي وُقِّعت مع قطر نهاية عام 2014، وبالتالي فقد كان متوقعًا من أنقرة أن تقوم بما قامت به بموجب هذه الاتفاقيات، فضلًا عن حقيقة أن الدوحة كانت أول من أدان، في يوليو/تموز 2016، المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وبالتالي فقد كان من المنطقي أن تتوقع أن يتم رد الجميل لها وقت الحاجة.
بالنسبة إلى الجانب الإيراني، فقد شكَّل اندلاع الأزمة الخليجية ضد قطر فرصة ذهبية له. أدت الأزمة إلى تفكيك المحور الإقليمي للدول التي كانت تعمل في السنوات الأخيرة على صد النفوذ الإيراني في المنطقة. كما شتَّتت الأزمة التركيز الإقليمي والدولي على التعامل مع السياسات الإيرانية كأكبر مصدر للخطر، واضطر العديد من الدول والجماعات إلى الاقتراب من إيران وتركيا في محاولة لحماية نفسها من تعدي المحور الرباعي عليها. انتهزت طهران الفرصة للتقرب من قطر فقامت بإرسال رسائل إيجابية عبر عدد من المسؤولين مطالبة بحل الأزمة عبر الحوار، ومبدية استعدادها في نفس الوقت للمساعدة على كسر الحصار.
لم تتأخر الدوحة عن الاستفادة من هذا الانفتاح الإيراني، لكنها حرصت على أن يكون انتقائيًّا بحيث تستفيد قدر الإمكان من القرب الجغرافي لإيران في الشق الاقتصادي من الأزمة. كل الخطوات التي اتخذتها الدوحة فيما بعد (اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف، وإعادة السفير إلى طهران، والزيارات المتبادلة...إلخ) كان هدفها خدمة كسر الحصار وليس تطوير تحالف سياسي مع إيران، وقد خدم ذلك في نهاية المطاف الطرفين، ولم يكن هناك مشكلة لدى الجانب الإيراني في تفهم الحسابات القطرية.
تعزيز الخاصرة الرخوة للدوحة
يبلغ عدد سكان قطر حوالي 2.5 مليون نسمة، وهي شبه جزيرة ترتبط بريًّا بالعالم الخارجي عبر منفذ وحيد على الحدود مع السعودية وهو معبر أبو سمرة. لتلبية احتياجات سكانها من المواد الغذائية الأساسية والاستهلاكية، تعتمد قطر بشكل شبه كلي على الاستيراد من الخارج. حوالي 80%من احتياجاتها من المواد الغذائية يأتي عبر الحدود مع السعودية، أو عبر ميناء جبل علي في الإمارات العربية المتحدة.
هذه الوضعية تعني أن الأمن الغذائي في قطر هو نقطة ضعف بينة. وبهذا المعنى، فقد استهدف الحصار الذي فرضته الدول المعادية لقطر الخاصرة الرخوة للدوحة، وبما أن الأدوات السياسية والدبلوماسية لم تكن كافية بحيث تجعل الدوحة تخضع وتقبل المساومة على سيادتها واستقلالها، فقد ارتأت دول الحصار استخدام الاقتصاد والمال والتجارة كسلاح لإجبار قطر على الاستسلام.
لقد كان من المهم بالنسبة لقطر الإبقاء على التواصل مع العالم الخارجي لمنع الحصار من تقويضه، وقد كانت الوسيلة المتاحة لتحقيق ذلك هي أسطولها من طائرات الخطوط الجوية القطرية، بالإضافة إلى افتتاحها ميناء حمد لاحقًا. عامل الوقت كان العدو الأول بالنسبة إلى الدوحة، صحيح أن الإمارة الخليجية تمتلك ثروة مالية طائلة، لكنها لم تكن في وضع يسمح لها باستغلال ذلك من أجل كسر الحصار، خاصة مع قطع الرباعي المعادي لها التعاملات المصرفية، ومنع الوسطاء أو الأطراف الثالثة من إرسال بضائعهم أو خدماتهم من وإلى قطر، بالإضافة إلى محاولة التلاعب بالعملة القطرية، لذلك فقد كان التدخل التركي حاسمًا في هذا السياق، وقد ساعد الانفتاح على إيران في تسريع وتيرة الدعم من أنقرة إلى الدوحة.
زادت السلطات التركية وكذلك الإيرانية من أذونات مرور الطائرات القطرية في أجوائها، وتم تحويل الطائرات المتجهة إلى أوروبا عبر الأجواء الإيرانية والتركية، وتلك المتجهة إلى إفريقيا عبر إيران وسلطنة عُمان ومنها إلى الجنوب .
وقد زادت أذونات المرور في الأجواء الإيرانية على سبيل المثال ما بين 100 إلى 150 رحلة يوميًّا .
عطلت هذه الإجراءات البديلة من المفاعيل الفورية للحصار الجوي. وإن تضمن ذلك زيادة في تكاليف الرحلات وكذلك في الوقت المخصص لها، لكنه أمَّن شريان حياة مهمًّا للدوحة. ضمنت هذه الخطوة للحكومة القطرية القدرة على طمأنة مواطنيها والعالم الخارجي، فهي قادرة على الصمود ومستعدة لتحدي الإجراءات غير القانونية للرباعي، وقد كان ذلك بمثابة رسالة مهمة من الناحية النفسية، ومن الناحية السياسية، أتاحت للحلفاء الإقليميين والدوليين اتخاذ موقف سياسي سريع وداعم للدوحة لاسيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
قامت تركيا، بصفتها الحليف الإقليمي الرئيسي للدوحة، بإنشاء جسر جوي لكسر الحصار الاقتصادي المفروض على قطر. خلال الساعات الأولى من الحصار في 6 يونيو/حزيران 2017، بدأت البضائع التركية بالتدفق إلى الدوحة عبر طائرات الشحن الجوي التابعة للخطوط الجوية التركية محملة بالمواد الغذائية لاسيما الحليب واللبن والبيض والدجاج. وسرعان ما انضمت طائرات شحن عسكرية قطرية وأخرى تابعة للخطوط الجوية القطرية إلى الجسر الجوي التركي، وقد شهد المسار الجوي اليومي بين البلدين أكبر عدد ممكن من الطائرات في تاريخ الرحلات الجوية بين تركيا وقطر إلى درجة أن البعض أشار إلى أن الحكومة التركية خصصت محطة منفردة للخطوط الجوية القطرية في مطار صبيحة في إسطنبول.
وفي غضون 48 ساعة، كانت البضائع التركية قد تدفقت إلى السوق القطرية، منهية بذلك أية إمكانية لخنق قطر بشكل فجائي من قبل رباعي الحصار. وفي أقل من 10 أيام، كانت طائرات الشحن العملاقة التركية والقطرية قد أجرت ما لا يقل عن 40 رحلة نقلت خلالها ما لا يقل عن 2800 طن من المواد الغذائية. استنادًا إلى وزير الاقتصاد التركي، فقد نقلت قرابة 105طائرات، خلال الـ15 يومًا الأولى من الحصار، البضائع بشكل يومي من تركيا إلى الدوحة، أي بمعدل حوالي 7 طائرات يوميًّا.
في المقابل، أعلنت إيران، في 11 يونيو/حزيران 2017، أنها كانت قد أرسلت 4 طائرات إلى الدوحة تحمل كل منها حوالي 90 طنًّا من الأغذية سريعة التلف، أي غالبًا الخضروات والفواكه، كما أبدت استعداداها لإرسال المزيد بالقدر الذي يطلبه الجانب القطري.
على الصعيد البحري، قامت تركيا بإرسال أولى سفنها البحرية المحملة بـ4 آلاف طن من الأغذية والبضائع إلى الدوحة في 21 يونيو/حزيران2017؛ وذلك لتخفيف التكاليف والحفاظ على تدفق البضائع بشكل مستمر، سيما وأن حمولة الطائراتمُكلِّفة وليست مجدية على المدى المتوسط والبعيد. تم بعد ذلك تدشين خط بحري تركي-قطري مباشر من ميناء إزمير إلى ميناء حمد وذلك ضمن سلسلة من الخطوط البحرية الجديدة المباشرة التي تم افتتاحها بين الدوحة وعدد من مدن العالم في الكويت وعُمان والهند وباكستان. وفي أغسطس/آب 2017، تم إطلاق أول خدمة نقل مباشر للبضاعة المبردة بين قطر وتركيا لتعمل بصورة منتظمة بإبحار كل 20-25 يومًا، على أن تصل من ميناء إزمير التركي خلال 11 يومًا.
أما إيران، فقد قامت بتخصيص ميناء بحري لديها لتسهيل نقل البضائع والسلع الغذائية على وجه التحديد إلى قطر وذلك بثلاث شحنات أسبوعيًّا عبر السفن.
على الصعيد البري، تمتلك تركيا أكبر أسطول من شاحنات النقل في كل أوروبا، وقد قامت الشاحنات التركية بتحميل البضائع إلى الدوحة عبر إيران، لكنها واجهت فيها بعض المشاكل اللوجستية والتأخير. بعض الإيرانيين كان يعتقد أن تركيا تفوقت عليهم وسارعت في الاستفادة من الأزمة بشكل سلبهم حصة مفترضة في السوق القطرية ، وهو الأمر الذي دفع الدوحة وأنقرة إلى إشراك طهران في اتفاق ثلاثي مهمته تسهيل نقل البضائع من تركيا إلى قطر، بالإضافة إلى الاستفادة من القرب الجغرافي لإيران من أجل استيراد جزء من البضائع منها مباشرة، لاسيما تلك التي قد تتعرض للتلف إذا تأخر شحنها. تكمن أهمية هذا الخط البري في أنه يخفض تكلفة النقل بحوالي 80% مقارنة بالنقل الجوي، أما من حيث الوقت، فإن الرحلة من تركيا إلى قطر تستغرق في حدود 9 إلى 11 يومًا أي أقل من الرحلة البحرية، ومن الممكن خفضها إلى أقل من يومين من أقرب نقطة تركية على الحدود مع إيران.
إعادة التوازن إلى معادلة القوة الصلبة
لكونها شبه جزيرة على الضفة الغربية للخليج العربي، تفتقد قطر إلى العمق الجغرافي. وجودها بين دولتين كبيرتين من الناحية الجغرافية والديمغرافية، إيران عبر الخليج في الشرق، والسعودية عبر الصحراء في الغرب، جعلها تعتمد أكثر خلال السنوات الماضية على قدراتها الدبلوماسية، وعلى سياسة التحوط والموازنة. ولذلك، فهي على عكس دول الحصار، فضَّلت الاستثمار خلال العقود الماضية في التنمية والسياسة الخارجية والقوة الناعمة. ونتيجة لهذه السياسة، فقد كانت حصة القوات المسلحة ضئيلة مقارنة بهذه المجالات، أو مقارنة بما ينفقه الرباعي المعادي لقطر على قطاع الدفاع والمشتريات العسكرية.
ولتعويض ذلك، تعتمد الدوحة في الدفاع الخارجي إلى حد بعيد على الاتفاقات الدفاعية القائمة بينها وبين عدد من الدول الحليفة إقليميًّا ودوليًّا. بدا التحالف القطري-الأميركي مهتزًّا في بداية الأزمة، ولم يكن من السليم الاعتماد عليه كضمان وحيد، لاسيما مع تكشف الحقائق عن عمل إحدى دول الحصار، وهي الإمارات، بشكل حثيث على إقناع الأميركيين بنقل قاعدتهم العسكرية من قطر إلى دولة أخرى.
لقد أثار هذا الوضع مخاوف عديدة حول مدى نجاعة الاعتماد بشكل حصري على تواجد قاعدة أميركية في البلاد لصد العدوان العسكري الذي تزايدت احتمالاته بعد فشل دول محور الحصار في إخضاع قطر بالإجراءات السياسية والاقتصادية وإمكانية لجوئها إلى تصعيد الأزمة عسكريًّا هذه المرة.
أمَّنت الدوحة عبر التنسيق الكامل مع تركيا وبالانفتاح الجزئي المحدود على إيران، استمرار تعطيل مفاعيل الحصار الاقتصادي، لكن لم يكن لديها الكثير لتفعله فيما يتعلق بالشق العسكري، باستثناء الاعتماد على ورقة جديدة، وهي التحالف الدفاعي الإقليمي مع تركيا، والذي يُعتقد أن الدوحة دفعت باتجاهه نهاية عام 2014 نتيجة الأزمة الخليجية السابقة التي اندلعت آنذاك.
في بداية شهر يونيو/حزيران 2017، توجه وفد تركي من شخصين رفيعَي المستوى في زيارة غير معلنة إلى السعودية للقاء مسؤولين سعوديين على أعلى مستوى في المملكة، وذلك بعد بضعة أيام فقط من اندلاع الأزمة. الوفد الذي ذهب بتكليف من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عاد من المملكة دون أن يحصل على إجابات شافية على أسئلته، لكنه استخلص من خلال جملة أُلقيت على مسامعه أن هناك تصعيدًا كبيرًا قادمًا.
بعد تقييمه لمخرجات اللقاء من جهة، وتسارع الأحداث في الأزمة الخليجية من جهة أخرى، قام الجانب التركي في 7 يونيو/حزيران 2017، أي بعد يومين فقط على فرض حصار على قطر، بتسريع الإجراءات اللازمة في البرلمان للموافقة على مشروع قانون يسمح بنشر قوات عسكرية تركية في الأراضي القطرية وذلك استنادًا إلى الاتفاق الدفاعي الأساسي الذي تم بين قطر وتركيا في ديسمبر/كانون الأول من العام 2014 والاتفاقات الأخرى الملحقة به لاسيما في العام 2015 و2016.
صادق رئيس الجمهورية في اليوم التالي على القرار الذي دخل حيز التنفيذ مباشرة، وقامت أنقرة، في 22 يونيو/حزيران 2017، بإرسال دفعة جديدة من قواتها قوامها 5 مدرعات و23 جنديًّا، وذلك للانضمام إلى حوالي 88 جنديًّا كانوا قد تمركزوا سابقًا في قاعدة طارق بن زياد.
استمر تدفق القوات التركية على شكل دفعات، كان آخرها دفعة في 26 ديسمبر/كانون الأول 2017(18) ، حيث أشارت التقارير إلى أن الجانبين يسعيان إلى رفع العدد مستقبلًا إلى 3 آلاف جندي تركي، علمًا بأن القاعدة تمتلك قدرة استيعابية لحوالي 5 آلاف جندي
على الرغم من أن الدفعات الأولى كانت صغيرة العدد، لكن توقيت القرار التركي فضلًا عن المضمون العسكري الذي ينص على التزام الجانب التركي الدفاع عن حليفه عسكريًّا إن اقتضى الأمر، أرسل رسالة واضحة جدًّا إلى محور دول الحصار على أكثر من صعيد:
أحدث صدمة نفسية لدى دول محور الحصار، وعقَّد من أية خطوات عسكرية قد تكون موجودة لديها، سيما وأنها كانت تعتقد أن انقسام المؤسسات الأميركية وترددها في التدخل الحاسم لإنهاء الأزمة قد يتيح فرصة للتصعيد العسكري أو للإطاحة بالقيادة القَطَرية خلال نافذة زمنية قصيرة، دون أن يكون هناك رد فعل أميركي على مثل هذا الأمر.
عدَّل من ميزان القوى الذي كان مختلًّا في بداية الأزمة، ومنع بهذا المعنى التصعيد العسكري لأنه جعل مجرد تفكير دول الحصار بالخيار العسكري مكلفًا للغاية. ونتيجة لذلك، أصبحت الدوحة في وضع أفضل بعد تأمين جانبها الاقتصادي والعسكري، مما أتاح لها الوقت الكافي للاستفادة من قدراتها السياسية والدبلوماسية والمالية مع تأمين جبهتها الداخلية من المخاطر الخارجية.
ألزم القرار التركي الجانب الأميركي بأن يسارع لاحتواء الموقف كي لا يفقد مصداقيته هو الآخر أو مصداقية ضماناته الأمنية التي تمثلها قاعدته العسكرية ليس فقط بالنسبة إلى الدوحة وإنما بالنسبة إلى كل الدول الصغيرة التي تعتمد على الحليف الأميركي لتحييد المخاطر الخارجية.
التحول من الإجراءات المؤقتة إلى السياسات المستدامة
مع تلاشي الخطر المباشر لاسيما الاقتصادي والعسكري، تكون قطر قد قطعت المرحلة الأصعب في المواجهة مع دول محور الحصار، وشرعت في التكيف مع الأوضاع الجديدة التي توحي بعدم وجود حل حقيقي قريب للأزمة، فضلًا عن حقيقة أن التوصل إلى حل لن يمحو بأية حال من الأحوال ما حصل من ذاكرة القطريين، فشرعت الدوحة في تعزيز الاعتماد على النفس تحسبًا للمستقبل.
لقد طوَّرت الأزمة من التحالف القطري- التركي بشكل كبير وغير معهود، كما فتحت ثغرة في جدار العلاقة مع إيران. ويُظهر سياق الأحداث أن الدوحة لا تريد الوقوف عند مستوى رد الفعل فقط، وإنما تريد المبادرة وتحويل الخطوات المؤقتة التي تم اتخاذها خلال الأشهر الأولى للحصار إلى سياسات مستدامة، وهو ما تقوم به فعلًا.
سياسيًّا، كانت الزيارة الخارجية الأولى للأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أثناء الحصار إلى تركيا انعكاسًا لهذا التوجه، واستضافت الدوحة الدورة الثالثة للجنة الاستراتيجية العليا المشتركة بين البلدين، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2017 لتؤكد على هذا الأمر. أما اقتصاديًّا، فيسعى الطرفان إلى تحويل الطفرة التجارية المؤقتة لإعطاء زخم مستدام للعلاقات الاقتصادية الثنائية مستقبلًا لاسيما في مجالات التجارة والغذاء والإنشاءات والصناعات الدوائية والنقل والصناعات البلاستيكية وغيرها من القطاعات.
دفاعيًّا، يبدو التحالف بين الطرفين أقوى من أي وقت مضى مع استضافة الدوحة أول قاعدة عسكرية تركية في العالم العربي، كما تعكس صفقات التسلح التي وقَّعتها الدوحة مع الشركات الدفاعية التركية في معرض الدوحة الدولي للدفاع البحري "ديمديكس 2018" الرؤية المستقبلية لهذا التحالف والحرص على أن تسهم أنقرة بشكل فعال في مكونات الاستراتيجية الدفاعية القطرية.
مع إيران يبدو أن سياسة التحوط القطرية التي اعتمدت جزئيًا على الشق الاقتصادي ستتعزز لكن دون الانتقال إلى الشق السياسي أو العسكري نظرًا للتعقيدات الإقليمية والدولية القائمة، بالإضافة إلى المخاطر المنطوية على مثل هذا الانفتاح على إيران في هذه الظروف وهذا التوقيت، فضلًا عن عدم جاهزية الطرفين لانفتاح حقيقي من هذا النوع في ظل استمرار التضارب الإقليمي في ملفات أخرى. الملف الإيراني سيبقى ساخنًا في عهد إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الأقل، ولذلك فإن جل ما ستحاول الدوحة فعله، هو تعزيز الانفتاح الاقتصادي ضمن الآليات المتاحة. الجانب الإيراني يعي ذلك أيضًا، ولذلك فهو غير معترض على الاستفادة من الانفتاح الجزئي خاصة أن تسبب المحور الذي تقوده السعودية في هذه الأزمة خدم صالح بلاده اقتصاديًّا مع قطر وسياسيًّا مع تركيا، وهو يسعى بدوره إلى استثمار ذلك على المدى المتوسط والبعيد.
وفي الذكرى السنوية الأولى لافتعال الرباعي الذي تقوده السعودية للأزمة الخليجية وفرض الحصار على قطر، تُبدي الدوحة بشكل متزايد قدرتها طويلة الأمد على تجاوز مفاعيل الحصار إلى مستوى جديد مختلف كليًّا وهو توطيد النفس على هذا الوضع المستجد في التاريخ القطري، والتأقلم معه بما يلغي مفاعيله بشكل تام على المدى البعيد.
لقد كانت تجربة صعبة من دون شك، وقد كانت في بدايتها مكلفة بالتأكيد، لكن كل ذلك كان ثمنًا مقبولًا إذا ما قورن بالمكاسب المتعلقة بحفاظ قطر على سيادتها واستقلالها، وترسيخ الروح الوطنية للقطريين وتعزيز إيمانهم بقدرات دولتهم وقيادتهم بشكل غير مسبوق على الإطلاق.
من إيجابيات الأزمة أنها جعلت قطر أكثر اعتمادًا على نفسها، وأكثر تحسبًا للمخاطر الخارجية، وأكثر قدرة على المناورة وعلى البقاء، في بيئة إقليمية معادية ومليئة بالاضطرابات والمشاكل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس