د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

كان لظهور الأتراك السلاجقة على مسرح الأحداث في المشرق العربي الاسلامي، أثر كبير في تغيير الأوضاع السياسية في تلك المنطقة التي كانت تتنازعها الخلافة العباسية "السنيّة" من جهة، والدولة الفاطمية "الشيعية" من جهة ثانية.

وقد أسس السلاجقة دولة كبرى ظهرت في القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر الميلادي)، لتشمل خراسان وماوراء النهر وإيران والعراق وبلاد الشام وآسيا الصغرى. وكانت الري في إيران ثم بغداد في العراق مقر السلطنة السلجوقية، بينما قامت دويلات سلجوقية في خراسان ومارواء النهر (كرمان) وبلاد الشام (سلاجقة الشام) وآسيا الصغرى سلاجقة الروم، وكانت تتبع السلطان السلجوقي في إيران والعراق.

وقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد، ونصروا مذهبها السنّي، بعد أن أوشكت على الانهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنفوذ العبيدي (الفاطمي) في مصر والشام. فقضى السلاجقة على النفوذ البويهي تمامًا، وتصدوا لأخطار الدولة العبيدية (الفاطمية) في شمال أفريقيا. حيث استطاع طغرل بك الزعيم السلجوقي أن يسقط الدولة البويهية في عقر دار الخلافة بغداد في عام 447هـ، وأن يقضي على الفتن، وأزال من على أبواب المساجد سب الصحابة، وقتل شيخ الروافض أبا عبد الله الجلاب لغلوه واستباحته دماء المسلمين السنة.

وبذلك زال النفوذ البويهي الشيعي الذي كان مسيطرًا على بغداد وعلى صلاحيات الخليفة العباسي، ودخل سلطانهم طغرل بك إلى عاصمة الخلافة العباسية استقبله الخليفة العباسي القائم بأمر الله استقبالاً عظيماً، وخلع عليه خلعة سنية، وأجلسه إلى جواره، وأغدق عليه ألقاب التعظيم، ومن جملتها أنه لقبه بالسلطان ركن الدين طغرل بك. كما أصدر الخليفة العباسي أمره بأن ينقش اسم السلطان طغرل بك على العملة، ويذكر اسمه في الخطبة في مساجد بغداد وغيرها، مما زاد من شأن السلاجقة. ومنذ ذلك الحين حل السلاجقة محل البويهيين في السيطرة على شؤون الخلافة وإدارة بلاد العرب والمسلمين.

ولأجل توطيد الروابط بين الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وبين زعيم الدولة السلجوقية طغرل بك، فإن الخليفة تزوج من ابنة جفري بك الأخ الأكبر لطغرل بك، وذلك في عام 448هـ/1059م. وفي شهر شعبان عام 454هـ/1062م، تزوج طغرل بك من ابنة الخليفة العباسي القائم بالله. لكن طغرل بك لم يعش طويلاً بعد ذلك، حيث أنه توفى ليلة الجمعة لليوم الثامن من شهر رمضان عام 455هـ/ 1062م، وكان عمره آن ذاك سبعون عامًا، بعد أن تمت على يده الغلبة للسلاجقة في مناطق خراسان وإيران وشمال وشرق العراق.

 ألب أرسلان "الأسد الشجاع":

تولى ألب أرسلان زمام السلطة في البلاد بعد وفاة عمه طغرل بك، وكانت قد حدثت بعض المنازعات حول تولي السلطة في البلاد، لكن ألب أرسلان استطاع أن يتغلب عليها. وكان ألب أرسلان -كعمه طغرل بك- قائداً ماهراً مقداماً، وقد اتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة، قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة، وضمها الى دولته.

وعندما اطمئن على استتباب الأمن، وتمكن حكم السلاجقة في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له، أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة، وهي فتح البلاد المسيحية المجاورة لدولته، وإسقاط الدولة الفاطمية (العبيدية في مصر)، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنيّة ونفوذ السلاجقة، فأعد جيشًا كبيرًا اتجه به نحو بلاد الأرمن وجورجيا، فافتتحها وضمها إلى مملكته، كما عمل على نشر الإسلام في تلك المناطق. وأغار ألب أرسلان على شمال الشام وحاصر الدولة المرداسية في حلب، والتي أسسها صالح بن مرداس على المذهب الشيعي سنة 414هـ/1023م وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة (الفاطمي/ العبيدي سنة 462هـ/1070م). ثم أرسل قائده أتنسز بن أوق الخوارزمي في حملة إلى جنوب الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس من يد (الفاطميين) العبيديين ولم يستطيع الاستيلاء على عسقلان التي تعتبر بوابة الدخول إلى مصر، وبذلك أضحى السلاجقة على مقربة من قاعدة الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي داخل بيت المقدس.

وفي سنة 462هـ ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم إلى السلطان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم وللسلطان وإسقاط خطبة صاحب مصر (العبيدي) وترك الأذان بـ (حي على خير العمل) فأعطاه السطان ثلاثين ألف دينار وقال له: إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار.

لقد أغضبت فتوحات ألب أرسلان دومانوس ديوجينس امبراطور الروم، فصمم على القيام بحركة مضادة للدفاع عن امبراطوريته. ودخلت قواته في مناوشات ومعارك عديدة مع قوات السلاجقة، وكان أهمها معركة (ملاذكرد) في عام 463هـ - أغسطس عام 1070م.

وقد كان نصر ألب أرسلان بجيشه الذي لم يتجاوز عشرين ألف محارب على جيش الامبراطور دومانوس الذي بلغ مائتي ألف، حدثًا مصيريًا كبيرًا، ونقطة تحول في التاريخ الإسلامي لأنها سهلت على إضعاف نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى، وهي المناطق المهمة التي كانت من ركائز وأعمدة الامبراطورية البيزنطية. وهذا ساعد تدريجيًا للقضاء على الدولة البيزنطية على يد العثمانيين.

كان ألب أرسلان رجلاً صالحاً أخذ بأسباب النصر والتمكين المعنوية والمادية، فكان يُقرب العلماء ويأخذ بنصحهم، وما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي في معركة ملاذكرد عندما قال للسلطان ألب أرسلان: إنك تقاتل عن دين وعدالله بنصره وإظهاره على سائر الأديان. وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين.

فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا فأمنوا، فقال لهم من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههُنا سلطان يأمر ولا ينهى. وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط وقال: إن قتلت فهذا كفني الله أكبر على مثل هؤلاء ينزل نصر الله. وقتل ألب أرسلان على يد أحد الثائرين واسمه يوسف الخوارزمي وذلك عام 1072م، ودفن في مدينة مرو بجوار قبر أبيه فخلفه أبنه ملكشاه.

ملكشاه وجهوده في توسيع الدولة الإسلامية:

تولى السلطنة بعد أبيه ألب أرسلان، واتسعت الدولة السلجوقية في عهده لتبلغ أقصى امتداد لها من أفغانستان شرقًا إلى آسيا الصغرى غرباً وبلاد الشام جنوبًا، وذلك بعد أن سقطت دمشق على يد قائده أتسز سنة 468هـ/1075م، وأقيمت الدعوة للخليفة العباسي.

وأسند ملكشاه المناطق التي سيطر عليها في بلاد الشام، لأخيه تاج الدولة تتمش سنة 470هـ/1077م، وذلك من أجل متابعة الفتح. فأسس هذا الأخير دولة سلاجقة الشام كما عين ملكشاه أحد أقاربه ويدعى سليمان بن قتلمش بن إسرائيل والياً على آسيا الصغرى التي كانت تتبع بلاد الروم، لمتابعة الفتح سنة 470هـ/1077م، فأسس هذا أيضاً دولة سلاجقة الروم وقد استمرت هذه الدولة 224 سنة، ليتعاقب على حكمها أربعة عشر من سليلة أبي الفوارس قتلمش بن إسرائيل، وكان أولهم سليمان بن قتلمش الذي يعتبر مؤسس هذه الدولة، وقد تمكن من فتح أنطاكية سنة 477هـ/1084م، كما تمكن ابنه داود من السيطرة على قونية سنة 480هـ/1087م ليتخذها عاصمة له. وكانت قونية من أغنى وأجمل المدن البيزنطية في آسيا الصغرى؛ وقد حولها السلاجقة من مدينة بيزنطية مسيحية الى مدينة سلجوقية إسلامية. وقد سقطت هذه الدولة على يد المغول سنة 700هـ/1300م وأصبحت فيما بعد من أملاك الدولة العثمانية.

استطاع الأتراك السلاجقة أن ينقذوا العالم العربي والإسلامي من أخطار داخلية وخارجية أحدقت به، وعملوا على تتريك الأناضول ونشروا الإسلام فيه، فكانوا سببًا في نقل الحضارة الإسلامية إلى مناطق جديدة كانوا تعتبر داخل الإمبراطورية البيزنطية، وأسقطوا الخط الدفاعي الذي كان يحمي أوروبا وأن ينبوا شخصية الدولة الإسلامية التي حمل رايتها آل عثمان بانتصاراتهم وفتوحاتهم التي وصلت أطراف بلاد الجرمان والممالك الإيطالية وبلاد روسيا.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس