ترك برس
سلّط مقال للسياسي والأكاديمي التركي ياسين أقطاي الضوء على علاقة المدينة بالإنساني، متطرقاً في سياق ذلك إلى حرب غزة الأخيرة وما تشهده من مجازر وإبادة، متسائلاً "ألا يجب أن يتوقف كل شيء أثناء حدوث إبادة جماعية".
المقال الذي جاء بعنوان "المدينة والإنسان.. على هامش انتخابات البلديات التركية" نشره موقع "الجزيرة نت".
وقال أقطاي إنه مع اقتراب الانتخابات في تركيا لتحديد من سيحكم مدننا وكيف، من المفيد اغتنام الفرصة للتفكير فيما تعنيه كلمة "مدينة" لبعض الوقت.
وأضاف: وقبل أن أعيد نشر اقتباسٍ طويل من مقال كتبتُه من قبلُ عن هذا الموضوع، دعونا لنلقي نظرة على أسئلة الامتحان الحالية حول "المدينة".
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
على مدينة غزة – التي يسكنها أناس أحرار تمامًا، وربما من أكثر الناس حرية في العالم، والذين أظهروا شجاعة عدم الخضوع لطواغيت العالم- تُلقى القنابل منذ 137 يومًا. مع ما يقرب من 30 ألف قتيل، ثلاثة أرباعهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 70 ألف جريح، ومدينة أصبحت غير صالحة للسكن، كيف يمكننا أن نتخيل أن شعبًا تربطنا به روابط كثيرة يواجه إبادة جماعية، ثم نواصل حياتنا كأن شيئًا لم يحدث؟
ألا يجب أن يتوقف كل شيء أثناء حدوث إبادة جماعية، وأن يبذل النّاس والجماعات والمجتمعات والشركات والدول والقادة كل جهودهم وأولوياتهم أولًا لوقف هذه الإبادة الجماعيَّة؟
حين يفكّر الإنسان في معنى "المدينة"، فإنّه يفكّر في نفسه، بل إنه يصل إلى مرحلة متقدّمة من هذا التفكير.
والإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التفكير في نفسه بطبيعته. لكن قدرته على التفكير شيء، واستخدامُه تلك القدرة شيء آخر. تمامًا كما أنّ القدرة على التفكير لا تعني بالضرورة أن كل ما يفكر فيه صحيح أو سليم.
ينبغي على الإنسان أن يفكر في نفسه، وأن يكون واعيًا بذاته، يعرف حدود عقله، ويتعرّف على نقاط القوة والضعف في شخصيته، وينتبه إلى عواطفه السيئة، كما يعرف مشاعره الطيبة؛ فيرصد اللحظات التي تنبض بغطرسته وجحوده وغيرته وحسده وأنانيته وساديّته وعقده الداخلية، فيسيطر على نفسه.
فهل نبحث عن "عمران" أو مدينة تساعد الإنسان على تحقيق كل هذا الوعي؟
في الواقع، إدراك كل هذه المشاعر التي يعيشها الإنسان داخل المدينة بشكل أكثر وضوحًا وكثافة، هو فضيلة من فضائل التفكير في النفس. الإنسان ليس مجرد عقل بالطبع، وهو ليس أيضًا ذلك الكيان المجرد الذي نذكر اسمه كثيرًا في النصوص الفلسفية بحروف كبيرة "إنسان". الواقع لا يشبه ذلك الاختزال.
كل إنسان هو قصة فريدة وحقيقية، فقد خلق من أب وأم، وتشكل من دم ولحم وعظم، له صفاته الخاصة التي تميزه، له عمره الخاص، وجنسه ومهنته، ووطنه، ونوعه، وجسده الفريد، ولغته، وجماعته، وعلاقات قرابته، وبيئته الاجتماعية.
والمدينة هي مجموع هؤلاء الأشخاص المتفردين. وعندما يؤسس مجموعة منهم مدينة فإنها لا تشبه المدن التي أنشأها آخرون في أماكن أخرى. المدن هي أماكن يصنعها وينظمها أناس يضفون عليها ألوانهم وشخصياتهم وحيويتهم.
كنّا في مناسبة سابقة، تساءلنا عن مستقبل العمل الأدبي المميز: "خمس مدن"، للكاتب التركي أحمد حمدي طنبير، الذي رسم فيه صورة رائعة للروح المتفردة التي تمثلها كل من هذه المدن التركية الخمس، وتجعل كل مدينة مختلفة عن غيرها، مثل كوكب مختلف في تنوعه وحيويته وهُويته.
اليوم يبدو كل شيء مستنسخًا من الآخر في جميع أنحاء المدن الحديثة: المباني الخرسانية والشوارع والطرق ومراكز التسوق.. إلخ.
لم يعد هناك داعٍ للفضول حول مدينة ما في الأناضول، فإذا رأيت واحدة فقد رأيت جميعها. كلها متشابهة في مبانيها وأماكنها المتناثرة.
هل وصلنا إذن إلى المحطة الأخيرة؟ هل هذه هي نهاية قصة الإنسان في هذا العالم؟ ألا يعني اندماج جميع البشر وقتل فرديتهم، نهاية الإنسان؟
لا يمكن أن يكون الأمر كذلك تمامًا، ولكن في هذا العالم صاحب الحداثة المزعومة، هناك مقاربة تتجاهل بُعد الحياة في الممارسات الحضرية، تهدف إلى جعل جميع المدن متشابهة، وتقوم بتدمير حياة المدينة نفسها في النهاية.
مَن جعل المدن على هذه الصورة اللاإنسانية، هو الإنسان نفسه في النهاية. لقد كان اختياره هو تجميد شيء متحرك ونابض بالحياة. ولو كان اختار أمرًا آخر لأمكن أن يتطور في اتّجاه مختلف.
على مدار التاريخ، حاولت جميع الحضارات إظهار عظمتها وبصمتها من خلال المدن التي بنتها. ولكن تلك المدن لم تكن مجرد تعبير عن عظمة الحضارات المؤسسة، بل كانت أيضًا مكانًا للحياة والنشاط.
وبالطبع، كان هناك أيضًا مدن أُنشئت فقط لتحدّي الآخرين، أو حتى لتحدّي الله سبحانه، ولكن إذا لم تقم المدينة إلا على هذه الأسس الواهية، فإنها تموت مع موت الإرادة التي بنتها؛ لأن المدن، كما قال ابن خلدون؛ إذا لم تكن هناك بادية تغذيها، وواقع يدعمها، فإنها تضعف أولًا ثم تختفي.
لا ينبغي، إذن، أن نتعامل مع المدن من خلال الإجابة عن هذا السؤال البسيط والاختزالي: من الذي سيتولى سلطة حكمها؟
المدن أكبر من ذلك؛ لأنها المكان الوحيد الذي يمكن للناس من خلاله إظهار خصوصياتهم الحضارية.
لم أكن أبدًا من المعجبين بمصطلح: "مظاهر الحضارة"، ولكن إذا اتّفقنا على أن ما بداخلنا ينعكس على الخارج، فلا ينبغي لنا تجاهل أن كل ما نشكو منه في مدننا اليوم هو انعكاس لما بداخلنا.
ولكن ربما يجب أن نبدأ التفكير في أنفسنا من خلال التفكير في المدينة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!