
ترك برس
ناقش مقال للسياسي التركي البارز ياسين أقطاي، التحولات الجذرية التي يشهدها الشرق الأوسط في ضوء الأحداث الأخيرة، مثل الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر، وسقوط نظام البعث في سوريا بعد 61 عامًا، وتأثير هذه التغييرات على توازن القوى في المنطقة.
ويسلط المقال في صحيفة يني شفق الضوء على الأبعاد السياسية والعسكرية لهذه التحولات، بما في ذلك الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي وأجهزته الاستخبارية، ودور حركة حماس في المقاومة.
كما يتناول مستقبل سوريا بعد التغيير الحاصل في النظام، وكيف يمكن أن تؤثر التوازنات الجيوسياسية الجديدة على المنطقة والعلاقات العربية-العربية والإقليمية.
ويعرض أيضًا تداعيات التغيير على العلاقات بين إسرائيل وتركيا، وأثر إدارة ترامب على السياسة الإقليمية. وفيما يلي نص المقال:
بعد أن زلزل طوفان الأقصى في 7 أكتوبر التوازنات العالمية تدريجياً، شهدت سوريا سقوط نظام البعث بعد 61 عامًا، بروحٍ ونهجٍ ثوري، ليعيد تشكيل الديناميكيات في منطقة الشرق الأوسط برمّتها. واليوم، تُطرح في مختلف الدوائر والمراكز تساؤلات حول طبيعة هذه التحولات، واتجاهها، ومسارها، وإلى أي عالمٍ ستقودنا.
وهذا أمرٌ يستحق التوقف عنده. فما نشهده من تغييرات تستدعي من الجميع إعادة النظر في مواقفهم، بل وحتى في جميع وجهات نظرهم ونماذجهم الفكرية السابقة. فها هو الجيش الإسرائيلي الذي كان يُوصف بأنه لا يُقهر، وأجهزته الاستخبارية، قد تعرضا لانهيار مدوٍّ، فيما باتت الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان دعمتاه دون أي اعتبار للقيم الإنسانية، شركاء في هذه الهزيمة بحكم الواقع. وفي المقابل، فإن حركة حماس، التي صُوّرت كمنظمة إرهابية، قد أثبتت خلال المعركة وتبادل الأسرى قدرًا كبيرًا من المقاومة والمهارة والرقيّ والنقاؤ. وفي خضم بيئة سادها فقدان الإيمان والأمل، ووسط التضحيات الجسيمة، وُلدت من رحم هذا الرقي آمالٌ جديدة.
والأمر ذاته ينطبق على سوريا. ففي اللحظة التي بدأ سلّم فيها الجميع ببقاء الأسد وبدؤوا بإعادة علاقاتهم مع الأسد وكأن شيئًا لم يكن، جاءت الثورة لتكشف جرائمه، وتضع المنطقة أمام واقع جديد تمامًا. ففي غضون فترةٍ وجيزة، بات الفرق بين الأمس واليوم كالفرق بين الليل والنهار، ولم يعد هذا التحوّل مجرّد شأنٍ سوري، بل أدى إلى تغيير كل الديناميكيات في الشرق الأوسط.
لا وجود لـ"اليوم التالي" الذي حلمت به إسرائيل
انعقد منتدى الجزيرة لهذا العام، الذي ينظمه مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة منذ سنوات، ويجمع سنويًا شخصيات بارزة لمناقشة القضايا الرئيسية، تحت عنوان "من الحرب على غزة إلى التغيير في سوريا: الشرق الأوسط أمام توازنات جديدة".
ويشارك في المنتدى عدد كبير من السياسيين والباحثين والصحفيين والأكاديميين والمثقفين والكتاب من جميع أنحاء العالم. وإلى جانب الجلسات الرسمية، تدور بين المشاركين نقاشات فكرية مكثفة في مختلف الزوايا، أشبه بعصف ذهني متواصل. وفي إحدى الجلسات التي تناولت آخر مستجدات غزة، جرت مناقشة التحديات التي تلي الحرب. وكانت الأوساط الإسرائيلية والصهيونية الأمريكية قد ناقشت لعدة أشهر، تحت عنوان "اليوم التالي"، فرضية أن حماس سيتم القضاء عليها بالكامل وأن إسرائيل ستتحقق من خلالها هيمنتها الكاملة. لكن السيناريو المطروح في الدوحة اليوم، وهو الأكثر واقعية، ولله الحمد يعكس واقعا مغايرًا تمامًا لهذا التصور، إذ باتت القضايا المطروحة تدور حول كيفية إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وآليات تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره.
وخلال الجلسة، تحدث باسم نعيم، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، ليؤكد موقفًا قد يبدو للبعض وكأنه تنازل، لكنه في الواقع يعكس ثوابت الحركة التي تبنّتها منذ سنوات. فقد شدد على أن حماس لم تكن يومًا تصرّ على البقاء في الحكم، لكنها في الوقت ذاته رفضت – ولا تزال ترفض – أي شكل من أشكال الوصاية الخارجية المفروضة على الفلسطينيين، مؤكّدًا أن أي حلّ لا ينبثق عن الإرادة الشعبية الفلسطينية لن يكون قابلًا للتطبيق. وفي ظل إدارة تقوم على إرادة الشعب الفلسطيني بالكامل، لا حاجة لحماس حماس للتواجد كتنظيم سياسي، إذ إن غالبية سكان غزة اليوم يتبنّون روح المقاومة التي تمثلها حماس. و الوضع في الضفة الغربية ليس مختلفًا.
إسرائيل ترى غزة مكانا ملعونا وهدفها الحقيقي هو الضفة الغربية
وفي نفس الجلسة، أكد مدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية "مسارات" هاني المصري ردًا على من يرون في السابع من أكتوبر مجرد ذريعة أو مبرر لإسرائيل لارتكاب إبادة جماعية، أن العدوان الصهيوني الذي نشهده في الضفة الغربية في الفترة الأخيرة كان على جدول الأعمال قبل 7 أكتوبر بكثير. وأوضح أن هذه الهجمات كانت جزءاً من خطة ممنهجة لإتمام العقيدة الصهيونية خطوة بخطوة، حيث قال " لقد كانت هناك مخططات لضم الضفة الغربية قبل 7 أكتوبر من قبل قوات الاحتلال والتي يطلقون عليها "يهودا والسامرة". ما يحدث ليس نتيجة 7 أكتوبر. إنه نتيجة للعقيدة الفاسدة والعدوانية التي وردت في التوراة المحرفة، لقد اعتقل حتى الآن أكثر من 10 آلاف شخص، وكما تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية الألف. لقد أصبحت الضفة الغربية سجونا منفصلة عن بعضها البعض".
وفي حديثنا مع بعض الفلسطينيين الحاضرين في القاعة فيما يتعلق بما ذكره المصري، تم تسليط الضوء على معلومة مثيرة للاهتمام. فقد تبين أن الدافع الحقيقي للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة ليس الرغبة في احتلالها، بل معاقبة غزة. ففي المعتقدات اليهودية الأسطورية، تعتبر غزة "أرضاً ملعونة"، فبعد 50 عامًا من الاحتلال، اضطرت إسرائيل للانسحاب، مما عزز هذه السردية الملعونة، ويبدو إن المقاومة التي نشأت في غزة بعد الحصار قد عززت ذلك، حتى أن بعض الروايات الأسطورية توصي بالابتعاد عن غزة. لكن بالنسبة للضفة الغربية، فإن الروايات معاكسة تمامًا، ولطالما كانت هناك طموحات إسرائيلية قديمة في احتلالها وضمها.
وفي الجلسات التي تناولت التغيير الحاصل في سوريا، تم التركيز على "عدالة الفترة الانتقالية" في سوريا، وما يمكن أن ينتج عن هذا التغيير، خصوصاً في سياق غزة. وقال أحد المشاركين إلى التعليقات التي ظهرت في الإعلام الإسرائيلي والتي تشير إلى أن "تحول تركيا إلى جار جديد لسوريا سيغير التوازنات جذرياً"، تؤكد على تصاعد التوتر بين إسرائيل وتركيا في الفترة المقبلة. وهذا ما دفع إسرائيل بالفعل إلى اتخاذ تدابير احترازية من الآن، مثل إقامة قواعد عسكرية جديدة في المنطقة العازلة بالجولان. وهذا وحده يكشف مدى التعاون الوثيق الذي كان سائدًا بين إسرائيل ونظام الأسد حتى الآن.
لا شك أن تداعيات التغيير في سوريا ستتجاوز طبيعة النظام الجديد وأسلوب الحكم والعلاقة بين الدولة والمجتمع، فالتداعيات الجيوسياسية لهذه التغيرات ستكون هائلة، وستعيد تشكيل التحالفات وتوازنات القوى في المنطقة. وستدخل العلاقات العربية-العربية، والعربية-الإقليمية مرحلة جديدة. وفي هذا السياق، طرحت عدة أسئلة في الجلسات: كيف سيؤثر هذا التغيير على سوريا داخلياً، من الناحية السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية؟ وما هو موقع سوريا في التحالفات الإقليمية المتنامية؟ وإلى أي مدى يمكن للدول العربية الاستفادة من هذا التحول، وتقديم الدعم اللازم للسوريين لتحقيق الاستقرار وإعادة إعمار البلاد؟
ومن المؤكد أن إدارة ترامب التي تولت السلطة في الولايات المتحدة ستكون عنصرًا جديدًا ومؤثرًا في هذه العملية، وستشكل جزءًا حاسمًا في التوازنات القادمة. ولكن يجب ألا نبالغ في تقدير تأثيرها. صحيح أنه سيكون لترامب تأثير في هذا السياق ولكنه لن يكون في صالحه، فمن المحتمل أن يؤدي تأثيره إلى تقارب أكبر بين المجتمعات والدول الإسلامية حتى وإن كانت ضد سياسته، بل وحتى تشكيل تحالفات أكثر استقلالية في مواجهة الولايات المتحدة على المستوى العالمي.
ومن الجدير بالذكر أن كل من أحداث غزة وسوريا التي كان لها تأثير كبير على التوازنات في الشرق الأوسط والعالم، قد تحققت بطرق غير ديمقراطية وباستخدام القوة، وهذا يشكل موضوعاً مهماً يجب تسليط الضوء عليه، خصوصاً في ما يتعلق بديناميكيات التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم الإسلامي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!