أحمد البرعي - خاص ترك برس
كنت مارًا بمكتبه في الصباح الباكر ذاهبًا إلى مكتبي في الجامعة فأشار لي زميلي "د. يافوس" بيده لأدخل إلى غرفته وأغلق الباب وفاجأني بسؤاله "ماذا لو كان ذلك الرجل عربيًا أو سوريًا؟" هل كانت ستتعاطى قنوات "دوغان" وإعلامه اليساري مع الحدث كما فعلت أم كانت ستعلو لهجة العداء والكره للأجنبي العربي خاصة؟ قلت لك أكثر ما يخيفني هو أن يقوم أحد السوريين بارتكاب جريمة أو أي عمل مشين، وصدقني ستتكالب عليه وكالات الأنباء الخبيثة والصحف الصفراء لكي تبث سموم الكره والعداء للغرباء وتعلي صوت القومية ونعرات العرقية البغيضة وستلعب على وتر اللاجئين والأجانب الذين احتلوا البلد وشغروا الوظائف واستحوذوا على خيرات ومقدرات تركيا وضاقت بهم المواصلات والطرقات.
القصة يا عزيزي أن وسائل التواصل الاجتماعي التركية عجت بمقطع من كاميرا المراقبة في إحدى المحلات التركية في منطقة "أكسراي"، المنطقة التي يقطنها العديد من الأجانب وخاصة العرب والسوريون. يظهر هذا المقطع المصور رجلاً يفتح ثلاجة المشروبات ليأخذ بعضًا من زجاجات المياه الباردة، ولكنه وللأسف جذب باب الثلاجة بقوة شديدة، إذ ظهر بعد ذلك أنه ملاكم إيرلندي محترف، فتساقطت معظم زجاجات الماء على الأرض، فخرج صاحب المحل معزرًا وصارخًا، فارتفعت الأصوات ومن ثم الأيادي والأرجل وهرع جيران صاحب المحل بالعصي والكراسي وانهالوا ضربًا على السائح الإيرلندي الأربعيني. ولكن الأخير لم يستسلم بل كال بعض اللكمات والركلات إلى المهاجمين فأسقطهم أرضًا، إذ لم يستطع أحدهم الوقوف على رجليه بعد تلقي تلك اللكمات القاسية. ثم يظهر الفيديو الرجل يهرب من بين أيديهم بعد أن تكاثروا عليه ويعود إلى الفندق، ثم يخرج مرة أخرى يقاتل إلى أن كسرت يده وأخذه البعض إلى المستشفى ومن ثم إلى الشرطة.
لقد أثار هذا الفيلم الهوليوودي مشاعر غريبة في نفس صديقي د. يافوس ما دفعه إلى استحضار صورة افتراضية كثيرًا ما حدثني عنها وهي خشيته من أن ينجح الإعلام اليساري القومي القميء، باستغلال أي حدث أو عمل مشين من قبل عربي يعيش في إسطنبول، في أن يزرع بذور الفتنة والكراهية بين الأتراك وضيوفهم الفارين من رمضاء بلادهم وظلم أوطانهم لهم، مهاجرين إلى تركيا أرض الأنصار والطيب أردوغان. لا ينكر فضل الأتراك وكرمهم إلا جاحد، ولا يتجنى عليهم إلا أعمى أو متعامٍ عما قدمته وما تقدمه تركيا لضيوفها عبر السنوات السابقة وما تعرضت له نتيجة لمواقفها من قضايا المنطقة. ولكن، ابتلى الله تركيا، كما ابتلى شعوبنا، "بنخبة" ناحبة منافقة فاجرة عالية الصوت، لها أبواق إعلامية وأقلام صحفية تخرج بين الفينة والأخرى منتقدة السياسة الخارجية التركية وخاصة أسلوب رئيس الجمهورية الطيب أردوغان في التعاطي مع قضايا البلدان المجاورة كسوريا والعراق وكيف أنه بسياسته "الرعناء"، على حد زعمهم، قد عزل تركيا عن محيطها ودورها الإقليمي والدولي الفعال إذ لم يعد يوجد لتركيا سفارات في العديد من الدول المحورية في المنطقة كسوريا ومصر و"إسرائيل" وغيرها بسبب هذه السياسات.
لا يتوانى هؤلاء الصحفيون والكتاب اليساريون عن التصريح عن امتعاظهم من "الغزو العربي" لإسطنبول ولكنهم ويا للمفارقة يرحبون بمسيرات الشواذ وشذاذ الآفاق في أرض العثمانيين ويلقى الغربيون بغرائب طباعهم وتناقضاتها مع طبيعة المجتمع التركي الترحيب والتهليل من هؤلاء الكتاب، ولا يجدون في أنفسهم حرجًا من مشاركتهم بعضًا من نشاطاتهم السخيفة والتافهة فخورين وناسين أو متناسيين أنهم "غرباء" عن البلد كأولئك "العرب" الذين اجتاحوا إسطنبول وأكلوا الأخضر واليابس. وليس بعيدًا عن تلك النفسية المريضة معالجة هذه الوسائل قصة الملاكم الإيرلندي وكيف صورته على أنه البطل الذي واجه العشرات بمفرده، وهذه حقيقة. ولكني أتساءل ماذا لو كان عربيًا؟ وأجزم بالقول إن حربًا شعواء كانت ستقودها هذه الأقلام والقنوات المسمومة، أما وسائل الإعلام وشباب مواقع التواصل الاجتماعي الذين انتفضوا للطفل السوري الذي ضرب في مدينة إزمير قبل بضعة أسابيع فهم طين هذه البلد وأصلها فمنطلقاتهم أخلاق ومبادئ تنبع من أصالة ديننا وحضارتنا.
استحضرت في هذا المقام صديقي البريطاني "ستيفين" الذي يعيش في إسطنبول منذ أكثر من عقد من الزمن وله من الأولاد عشرة ويقود هو وزوجته وأولاده فرقة غنائية أسماها "لسنا غرباء" yabancı degiliz ويتقن اللغة التركية ويحب الطعام التركي ويعيش بين الأتراك وفي أحيائهم حتى يصعب عليك من الوهلة الأولى أن تميز بينه وبين التركي الأصلي سوى لكنته الإنجليزية الجميلة في اللحن باللغة التركية. استوقفني جمال اسم الفرقة الموسيقية ودلالته، وبادرتني خاطرة طالما فكرت فيها. هل نحن – العرب - غرباء في أرض المآذن، إسطنبول الساحرة؟ لماذا أحن إلى خبز "غزة" وأقصد مطعم "يافا" ولمذا يجتمع السوريون في مطاعم "طربوش أكسراي" والعراقيون في مقاهي "الفاتح" العراقية؟ هل لأنها تذكرهم برائحة البلد وطين الموطن وحنين الروح إلى فيافي الوطن؟! أم لأننا نشعر بالغربة ونريد أن نأوي إلى من نعرف ونألف ونتجنب الانخراط والتكيف مع الواقع الجديد؟!
سيرجع كل إلى موطنه، وستعود بلابل بلادنا تغني على أغصان أشجارها الوارفة وستعود بلادنا وجهة الحالمين بالحرية والسلام والمحبة. هي منحة من بين محن العرب. إذ شاءت لنا الأقدار أن ننزل بهذه البلاد فكان حريًّا بكل منا أن يقدم مثالًا عظيمًا لأهل هذه البلد، ويساهم بأخلاقه وأفعاله بتزيين الموزاييك التركي بثقافة عربية طالما أنارت عقول أبنائها ظلام أوروبا وساهمت – مع غيرها من العرقيات - في الرقي بالغرب ومجتمعاته، فكان لزامًا علينا أن نرفع راية عروبتنا بمساهماتنا ومشاركاتنا النوعية في الحياة الثقافية والأكاديمية والاجتماعية في أرض ترحب بنا وتفتح لنا أبوابها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس