ترك برس
عندما فتح العثمانيون مدينة إسطنبول (القسطنطينية) وجدوها في حالة مزرية، فلم تكن المدينة قد تعافت بعد من آثار الدمار والخراب التي أحدثها اللاتينيون الذين احتلوا المدينة وظلوا بها خمسين عاماً أثناء الحملات الصليبية، قبل قرنين من فتح المدينة على يد العثمانيين، بحسب المؤرخ التركي والأكاديمي في جامعة مرمرة في إسطنبول "أكرم بوغرا أكينجي".
ويُشير أكينجي، في تقرير نشرته صحيفة "ديلي صباح" التركية، إلى أن عدد سكان إسطنبول عند فتحها لم يكن يتجاوز 50 ألف نسمة، وزاد هذا العدد وكبرت المدينة بفضل هجرة الأتراك إليها من الأناضول. وقام العثمانيون بإضفاء الطابع العثماني على المدينة عبر إعادة الإعمار والإسكان.
ويقول أكينجي إن إسطنبول تعد واحدة من أكبر المدن في أوروبا بل في العالم بعدد سكانها الذي يتجاوز العشرة ملايين نسمة. وعلى مر التاريخ شهدت المدينة هجرات متتالية من أهالي القرى الذين كانوا يقولون على إسطنبول "حجارتها وترابها من ذهب". وتجاوزت أعداد المهاجرين إلى إسطنبول المعدلات الطبيعية بعد عام 1950 مع الانتقال إلى الحياة الديمقراطية، وتطور حركة النقل والمواصلات في البلاد.
ويُتابع المؤرخ التركي.. عندما فتح العثمانيون إسطنبول وجدوها في حالة مزرية. فلم تكن المدينة قد تعافت بعد من آثار الدمار والخراب التي أحدثها اللاتينيون الذين احتلوا المدينة وظلوا بها خمسين عاماً أثناء الحملات الصليبية قبل قرنين من فتح المدينة على يد العثمانيين. فقد هُربت ثروات بيزنطة وآثارها الفنية إلى أوروبا. من ضمن هذه الآثار الفنية المهربة التمثال البرونزي للأحصنة الأربعة (أحصنة الكوادريغا) وهو موجود اليوم في بازليكا سان ماركو بفينيسيا.
حتى قصور المدينة التي كانت موجودة في موقع سراي بورنو تم تدميرها لذا كان الأباطرة يقيمون في القصر الصيفي الصغير بمنطقة أيوان سراي والمعروف اليوم بـ"قصر التكفور". حتى "آيا صوفيا" أكبر كنيسة في المدينة كانت على وشك أن تتهدم لولا المهندس المعماري الذي أرسله السلطان العثماني إلى الإمبراطور قبل الفتح بسنوات قليلة.
كان المعماري مؤمن بأن المدينة ستفتح على أيدي المسلمين وأن آيا صوفيا مقدر لها أن تتحول إلى مسجد لذا قام بتجهيز أساسات مآذنها. وعند عودة المعماري إلى أدرنة عاصمة الحكم آنذاك. أخبر السلطان بذلك.
عندما فتحت إسطنبول لم يكن عدد سكانها يتجاوز الخمسين ألفاً. فقد قل عدد السكان كثيراً بسبب الأوبئة والحرائق والمجازر التي ارتكبها الصليبيون في المدينة. ولم يقم السلطان محمد الفاتح بالاستيلاء على المدينة بما فيها غنيمة حرب بالرغم من أنه أخذ المدينة بعد انتصاره في الحرب.
بل أعلن أن كل شخص بالمدينة سيواصل حياته وعمله بصورة طبيعية وسيحتفظ بمنزله ودكانه. كما أمن المسيحيين على حياتهم وأموالهم وحرية معتقداتهم الدينية. ولكن على الرغم من هذا، فضل قسم صغير من السكان ترك المدينة.
وقام السلطان محمد الفاتح بإحضار الناس من الأناضول والروميللي وأسكنهم في بعض أجزاء المدينة. وأعطاهم البيوت والدكاكين التي هجرها أهلها. وكان أول من أحضروا من الأناضول إلى إسطنبول جاؤوا من بورصا وأُسكنوا في منطقة أيوب سلطان.
كما تم إسكان من أحضروا من طرابزون في منطقة بايزيد حاليا، ومن جاؤوا من تشارشامبا (منطقة مطلة على البحر الأسود) تم إسكانهم في حي "تشارشامبا" بمنطقة الفاتح.
أما من أحضروا من قسطمونو فأسكنوا بمنطقة قازانجي، ومن جاؤوا من إزمير أسكنوا في منطقة غلاطه، ومن جاؤوا من ولايات قونيا، وآق سراي، وقارامان تم إسكانهم في منطقتي الفاتح وآق سراي، ومن جاؤوا من يني شهير تم إسكانهم في منطقة يني قابي فيما رجح الكثيرون الإقامة في منطقة أسكودار بالشق الآسيوي من إسطنبول. وكانت منطقة أسكودار تحت حكم الأتراك منذ سنوات طويلة وكان سكانها من التركمان.
ومن أجل تطوير الحياة التجارية والحرفية في إسطنبول أسكن السلطان محمد الفاتح العديد ممن يجيدون هذه الأعمال في أماكن متفرقة في المدينة؛ فقام بإسكان روم الموره في منطقة فنر، والأرمن في مناطق لانغا و كوم قابي وخاص كوي، أما اليهود فقام بإسكانهم بالقرب من منطقتي تكفور سراي وتشيفيت قابيسي.
كما استقر الروم القادمون من طرابزون بحي غلاطه. ولم يهمل السلطان إسكان المزارعين في أماكن الأراضي الزراعية الخصبة من أجل توفير احتياجات المدينة من المحاصيل الزراعية.
كان البيزنطيون يكرهون الأرمن الذين يعتنقون مذهباً غير مذهبهم وكانوا لا يسمحون لهم بالتقدم إلى ما بعد الأناضول. ومع قدوم الأتراك انتشر الأرمن في كل بقاع الأناضول وبدؤوا مزاولة الحرف التي يجيدونها. وأسس السلطان محمد الفاتح البطريركية الأرمينية في إسطنبول وأحضر 40 ألف حرفي أرمني مع عائلاتهم من شبه جزيرة القرم التي كانت قد فتحت حديثاً، وأسكنهم بالقرب من منطقة كديك باشا.
وأحضر السلطان ياووز سليم أيضاً نحو 40 ألف أرمني آخرين من شرق الأناضول وأسكنهم في حي ساماتيا. وهكذا قام العثمانيون بإضفاء الطابع التركي على المدينة من خلال إعادة إعمارها من جديد وإسكان الأهالي بها.
طبقاً للتعداد السكاني الذي أجري في نهاية عهد السلطان محمد الفاتح اقترب عدد سكان إسطنبول بما فيها أسكودار وغلاطه والبوسفور من المئة ألف نسمة. وفي عهد السلطان بايزيد الثاني وصل عدد السكان إلى 400 ألف. وبذلك أصبحت إسطنبول أكبر مدينة في العالم متفوقة بذلك على القاهرة وتبريز وهرات حتى القرن السابع عشر.
وتجاوزت نسبة السكان المسلمين نسبة غير المسلمين لتصل إلى 60%. وكان 75% من السكان يعيشون داخل سور المدينة و15% بمنطقتي غلاطه وأيوب والباقي في أوسكودار والبوسفور.
استمرت عمليات الإسكان في إسطنبول حتى عهد السلطان سليمان القانوني، وكانت المدينة مقسمة إلى أربعة أقضية: إسطنبول (داخل السور)، وأسكودار، وأيوب، وغلاطه. وأُحضر العديد من الحرفيين من القاهرة والشام. ومن أجل توسعة المدينة طلب السلطان من رجال الدولة أن يقيموا خارج المدينة.
وحول منازلهم سيقيم المقربون منهم والخدم، ويتم إنشاء جامع، وحمام وسوق، وبذلك تنشأ أحياء جديدة. وقد تشكلت العديد من الأحياء في إسطنبول بهذه الطريقة مثل أحياء أياس باشا، وبيالى باشا، وقاسم باشا.
كان من يعانون ضيق العيش أو قلة الأراضي من سكان المناطق الساحلية شرق وغرب البحر الأسود يقضون فصل الشتاء في إسطنبول وكانوا يعملون في صيد السمك أو في المخابز وفي فصل الصيف كانوا يعودون إلى قراهم. ومع بداية عصر الصناعة في القرن التاسع عشر أقام هؤلاء في إسطنبول بصفة دائمة، ومعظم سكان إسطنبول حالياً تعود أصولهم إلى تلك المناطق.
استمرت الهجرة إلى إسطنبول من الأناضول، إضافة إلى المهاجرين الفارين من الروميللي والقوقاز. ومنذ عهد البيزنطيين كان الأرناؤوطيون يعملون في أعمال البناء بالمدينة وكان الأكراد يعملون في الأعمال التي تتطلب قوة بدنية مثل العتالة.
منذ عهد السلطان مراد الرابع والجزارون في المدينة من منطقة آييين بولاية أرزينجان. كما مربو الحيوانات وبائعو منتجات الألبان من أهالي الروميللي القادمين من بلغاريا وشمال مقدونيا. وكان أكثر صانعي وبائعي الحلوى من ولاية قسطمونو.
وصل عدد سكان إسطنبول في القرن الثامن عشر إلى 700 ألف وفي القرن التاسع عشر وصل إلى 800 ألف نسمة. في ذلك العصر كان عدد سكان لندن قد بلغ 5 ملايين، ونيويورك 3,5 ملايين، وباريس 2,5 مليون، وبلغ عدد سكان برلين وفيينا 1,5 مليون نسمة. وكانت إسطنبول تأتي بعدهما مباشرة من حيث تعداد السكان.
في نهاية عهد الدولة العثمانية أدت الهزائم العسكرية والأوبئة والكوارث مثل الزلازل والحرائق إلى انخفاض عدد سكان إسطنبول. وفي بداية عصر الجمهورية كان تعداد سكان المدينة لا يتجاوز الـ 700 ألف نسمة.
كانت معدلات الزيادة السكانية في الدولة العثمانية منخفضة كما هو واضح من الوثائق الموجودة بالأرشيف العثماني. فإضافة إلى الحروب المستمرة وزيادة عدد الوفيات بين الأطفال والأمراض والأوبئة، يعتقد أن الناس بالمدينة اتجهوا إلى تنظيم النسل بسبب خوفهم من صعوبة تربية الأطفال والتي كانت تزداد يوماً بعد يوم.
بعد إعلان الجمهورية التركية تم إرسال المتعلمين من أهل إسطنبول إلى أنقرة والمدن البعيدة للعمل كموظفين وإداريين في الدولة.
وصل تعداد السكان في إسطنبول إلى مليون نسمة لأول مرة عام 1955. بعد ذلك أجبرت عدة أحداث السكان غير المسلمين على ترك المدينة، منها الحرب بين تركيا واليونان، وأحداث 6-7 سبتمبر/أيلول 1955، وأزمة قبرص عام 1963 التي أجبرت الروم على ترك المدينة، كما هاجر اليهود من إسطنبول بسبب ضريبة الثروة التي فرضت عام 1942، وبعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.
واضطر الأرمن إلى مغادرة المدينة بسبب بعد التضييقات والضغوطات عليهم. وهكذا انسحب غير المسلمين من إسطنبول بعد أن كانوا يشكلون نحو نصف السكان ويعدون علامة على الثراء الثقافي في المدينة، وبسبب نمو المدينة بدون تخطيط فقدت إسطنبول رونقها وسحرها ولم تعد كما كانت في السابق "مدينة الأحلام في الإمبراطورية".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!