احسان الفقيه - الأناضول
قد تكون الأزمة الراهنة التي تمر بها المملكة العربية السعودية هي الأسوأ والأكثر خطورة في تداعياتها عن سابقتها: أزمة اتهام المملكة بالوقوف وراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
منذ اليوم الأول أبرزت اتجاهات السياسة التركية في التعاطي مع قضية جمال خاشقجي أنها تمس هيبة الدولة التركية وأمنها الداخلي، وأنها قضية لا مساحة فيها للمساومات السياسية، والقول الفصل هو للادعاء العام التركي المكلف بالتحقيقات دون غيره، وشددت أنقرة على إعلان نتائج التحقيقات أمام العالم وتحميل المسؤولية للمسؤول عنها أيا كانت صفته، مع التأكيد على ضرورة تعاون السعودية بشكل كامل مع تركيا للوصول إلى الحقيقة.
اعترفت المملكة رسميا بمسؤولية أشخاص سعوديين عن وفاة جمال خاشقجي داخل مبنى القنصلية في إسطنبول في 2 أكتوبر/ تشرين الأول، بعد نفي ولي العهد وشقيقه خالد بن سلمان السفير السعودي في واشنطن علمهما في وقت سابق بمصير خاشقجي، مع تأكيدات على مغادرته القنصلية وتعطل كاميرات المراقبة عن التسجيل في ذلك اليوم.
النائب العام السعودي في بيانه أشار إلى الاشتباه بثمانية عشر سعوديا بالضلوع في حادثة وفاة جمال خاشقجي.
وإذا كان البيان الرسمي السعودي الذي اعترف بوفاة المواطن جمال خاشقجي بعد أكثر من أسبوعين من الإنكار قد أرجع الوفاة إلى "شجار" واشتباك بالأيدي داخل مبنى القنصلية، وألقى باللائمة على أفراد مكلفين بالتفاوض مع خاشقجي لإقناعه بالعودة إلى بلاده، لنفي أي مسؤولية عن ولي العهد محمد بن سلمان أو أبيه الملك.
وأصدر الملك السعودي سلسلة من الأوامر الملكية شملت إعفاء أحمد عسيري نائب رئيس الاستخبارات العامة من منصبه، والمستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني، ومساعد رئيس الاستخبارات العامة لشؤون الاستخبارات اللواء الطيار محمد بن صالح الرميح، ومدير الإدارة العامة للأمن والحماية برئاسة الاستخبارات العامة، اللواء رشاد بن حامد المحمادي، كما شملت إعفاء مساعد رئيس الاستخبارات العامة للموارد البشرية، اللواء عبد الله بن خليف الشايع من منصبه.
سلسلة الإعفاءات التي طالت كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية العامة أعقبها توجيه من الملك سلمان بن عبد العزيز بتشكيل لجنة وزارية برئاسة ولي العهد وعضوية عدد من أعضاء مجلس الشؤون السياسية والأمنية الذي يرأسه، بناء على توصية رفعها محمد بن سلمان تضمنت الحاجة الماسة والملحة لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بشكل دقيق وتقييم الإجراءات والأساليب والصلاحيات المنظمة لعملها، والتسلسل الإداري والهرمي بما يكفل حسن سير العمل وتحديد المسؤوليات، بحسب الوكالة الرسمية.
تشكيل لجنة إعادة هيكلة الاستخبارات العسكرية السعودية وإناطة مسؤوليتها بولي العهد يفهم منها أنها تعزيز استباقي لمواقعه في الداخل السعودي بشكل أكبر.
ووفقا لمسؤول سعودي أدلى بتصريحات لوكالة "رويترز" فإن الرواية الرسمية الأولى للحكومة السعودية استندت إلى "معلومات خاطئة" قدمتها "جهات داخلية" بينت التقارير الأولية أنها كانت كاذبة، الأمر الذي دفع السلطات السعودية لإجراء تحقيق داخلي أثبت وفاة خاشقجي داخل مبنى القنصلية.
وتلقت السلطات السعودية تقريرا "مزورا" من الفريق المكلف بإحضار جمال خاشقجي تضمن السماح لخاشقجي بمغادرة مبنى القنصلية بعد أن حذر من تدخل السلطات التركية في حال أصروا على "اختطافه"، بحسب نفس المسؤول.
لذلك يبدو واضحا أنه سيتم تحميل المسؤولية كاملة لعدد من المسؤولين الأمنيين والضباط، منهم نائب رئيس الاستخبارات السعودية أحمد عسيري - وهو من بين أهم المقربين من ولي العهد - بالتخطيط لاختطاف خاشقجي وإرسال وفد من خمسة عشر شخصا، بينهم مسؤولون في الأجهزة الأمنية وضباط في الحرس الملكي.
ولا تبدو الحكومة السعودية أو أصحاب القرار، بمن فيهم الملك، على استعداد لتحميل ولي العهد السعودي مسؤولية مقتل خاشقجي.
أكدت الإجراءات السعودية الأخيرة وإعلان وفاة خاشقجي أثناء مراجعته قنصلية بلاده بإسطنبول والاعتراف بالجريمة والتحقيق مع المتورطين بها على استجابتها للضغوط الخارجية..لكن تلك الاستجابة ستظل في إطار حملة إعفاء مسؤولين أمنيين في الصف الأول من قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية العامة وتقديمهم للمحاكمات مع 18 متهما مشتبه بمسؤوليتهم عن وفاة خاشقجي وتصرفهم بشكل خارج نطاق تعليمات المسؤولين عنهم بشكل فردي.
مراقبون وسياسيون غربيون، بينهم رؤساء دول، حملوا ولي العهد كامل المسؤولية عن وفاة جمال خاشقجي رغم نفي مسؤولين رسميين سعوديين، بينهم وزير الخارجية، أن يكون محمد بن سلمان على علم بالحادث أو أنه هو من أصدر أمر إحضار خاشقجي.
وأعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في البداية قبوله نتائج التحقيق السعودي مع حديث عن محاولات إنقاذ العلاقات الأمريكية السعودية بالتلويح بالمكاسب المتحققة لبلاده جراء صفقات مبيعات الأسلحة التي قال إنها توفر للأمريكيين 600 ألف وظيفة، في رد غير مباشر على دعوات أعضاء في الكونغرس الأمريكي تطالب بقطع العلاقات مع السعودية، أو على الأقل فرض عقوبات ووقف تصدير الأسلحة، وتغيير ولي العهد محمد بن سلمان.
وتزايدت الدعوات في الأوساط السياسية الأمريكية لتغيير محمد بن سلمان لأنه "أصبح عبئا على الإدارة الأمريكية"، ما دفع ترامب أمام هذه الضغوط لتشديد لهجته إزاء الرياض.
ويدور حديث في أوساط إعلامية وسياسية عن استبدال ولي العهد محمد بن سلمان بشقيقه خالد بن سلمان سفير المملكة في واشنطن أو ولي العهد السابق محمد بن نايف؛ لكن أمرا كهذا لا يبدو أنه قابل للتحقيق من واقع امتلاك محمد بن سلمان المزيد من النفوذ في مؤسسات الدولة، الأمنية والاقتصادية، عبر تقريبه لشخصيات تدين له بالولاء الشخصي واعتماده سياسة إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية وتطهيرها من غير الموالين له.
ثمة إجماع على أن الشخص الوحيد الذي يمتلك ما يكفي من السلطات للحد من سيطرة ولي العهد على المساحة الأكبر من القرار السعودي، هو الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يرى مراقبون أنه قد لا يستسيغ تقبل حجم الضرر الذي لحق بالمملكة جراء تداعيات حادث مقتل خاشقجي، والاتهامات التي يوجهها قادة دول أوروبية لولي العهد بالمسؤولية عن الحادث، والإجراءات المنتظر اتخاذها من قبلهم ضد المملكة، بما فيها التلويح بتعليق الزيارات السياسية للسعودية، وفق تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وإلغاء مشاركة العديد من الوزراء الأوروبيين وكبار رجال الأعمال الدوليين ورؤساء البنوك والشركات الكبرى في مؤتمر الاستثمار "دافوس الصحراء" المقرر اليوم الثلاثاء.
قد يلجأ الملك السعودي إلى تقليص حجم الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها ولي العهد والحد من سلطاته، وإجراء تعديلات تضمن توزيع السلطات على دائرة أوسع من الأمراء؛ لكن لا تبدو ثمة مؤشرات على استجابة الملك لدعوات تنحية ولي العهد واستبداله، كما تدعو لذلك أوساط سياسية متنفذة في الكونغرس الأمريكي وبعض قيادات الدول الأوربية.
الاعتراف الرسمي بالمسؤولية عن مقتل خاشقجي وجملة الإجراءات الأخرى لن تساهم إلا بتخفيف الحملة الإعلامية بعض الشي، لكنها بالتأكيد سوف لن تغلق ملف مقتل خاشقجي حتى النهاية، كما أنها لن تجعل المملكة بعيدة عن المزيد من الإجراءات العقابية لدول العالم، أوروبا والولايات المتحدة بشكل خاص، إلا في حال توافقت الرواية السعودية مع ما سيعلنه الادعاء العام التركي من نتائج التحقيقات بشكل رسمي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس