د. حسام شاكر - TRT عربي
صحيح أنّ لدى باريس من الإرث التاريخي والنفوذ المتراكم ما يعزّز ثقتها بالذات، وقد يبرِّر بعض مساعيها وتحرّكاتها وحملاتها؛ لكنّ المنسوب الزائد من الثقة لا يتناسب مع قدراتها الفعلية على تحقيق الإنجازات المؤكدة وحسم المواقف الجازمة.
هي الدولة التي تتحرّك في أرجاء المشهد وتسجِّل حضورها قبل غيرها في قفزات سريعة، عبر رقعة تمتدّ من دول الساحل والصحراء إلى شرق المتوسط.
إنها فرنسا التي برز رئيسها إيمانويل ماكرون بين ركام بيروت فجأة، حتى قبل أن يجرؤ أي من زعماء لبنان على الظهور في الميدان المنكوب، ثم عقد على عجل مؤتمراً دولياً للمانحين بشأن لبنان، وباشر اتصالات مكثفة مع القادة اللبنانيين لترتيب المشهد السياسي الجديد بعد انفجار المرفأ، بما أوحى أنه سيد الموقف الذي يملك مفاتيح الحلّ الوشيك، رغم استعصاء العقد اللبنانية على الحلّ.
صحيح أنّ لدى باريس من الإرث التاريخي والنفوذ المتراكم ما يعزّز ثقتها بالذات، وقد يبرِّر بعض مساعيها وتحرّكاتها وحملاتها؛ لكنّ المنسوب الزائد من الثقة لا يتناسب مع قدراتها الفعلية على تحقيق الإنجازات المؤكدة وحسم المواقف الجازمة وقد يطغى الطابع المتعجِّل والاستعراضي على بعض التحركات الفرنسية، كما قد تتجاوز الانطباعات التي تمنحها باريس للمجتمع الدولي حدود الواقع.
حدث شيء من ذلك، مثلاً، في حملة دبلوماسية كبرى خاضتها فرنسا سنة 2007 لإطلاق نسخة جديدة من الشراكة الأوروبية المتوسطية، فانتهى الأمر إلى صور جماعية واعدة وآمال انقشعت سريعاً. بلغت الحماسة بالرئيس الفرنسي آنذاك، نيقولا ساركوزي، حدّ التبشير من طنجة المغربية، بقيام اتحاد متوسطي يجمع بلدان الضفّتين الشمالية والجنوبية مع تقاسم حظوظ التقدّم والرفاه والاعتماد المتبادل، وهي رؤية طواها الزمن وصارت نسياً منسياً.
https://www.youtube.com/watch?v=T3kHwaGlGMU&feature=emb_logo
إن بقيت وعود فرنسا نحو شركاء المتوسط حبراً على ورق؛ فإنّ الفجوة تبدو جسيمة للغاية لدى ملاحظة معضلات النفوذ الفرنسي المزمن في إفريقيا. يعبِّر رسم كاريكاتوري لاذع عن طبيعة علاقات ما بعد الاستعمار؛ بتصوير الديك الفرنسي المنتفخ زهواً وهو ينعم بتناول مخزون وفير من الحبوب بمساحة القارّة السمراء، وهو المعنى الذي اجترألويجي دي مايو، عندما كان نائب رئيس الوزراء الإيطالي،على التصريح به بقوله إنّفرنسا "لم تتوقف عن ممارساتها الاستعمارية في عشرات الدول الإفريقية".
قدّم دي مايو في تصريحاته الجريئة التي أدلى بها في يناير/كانون الثاني 2019 مكاشفة نادرة. قال فيها إنّ فرنسا "لم تتوقف عن استعمار عشرات الدول الإفريقية"، وأنه لولا دول إفريقيا لكان الاقتصاد الفرنسي في المركز الخامس عشر بين اقتصادات العالم؛ لا بين أكبر ستة اقتصادات عالمية.
بصرف النظر عن مغزى تلك التصريحات الإيطالية التي جاءت في سياق التنازع بين روما وباريس؛ فإنّفرنسا تجد في ماضيها الاستعماري وفضائها الفرنكفوني ومصالحها الاقتصادية وأواصرها الاستراتيجية عبر إفريقيا وضفاف المتوسط ما يستدرجها إلى تحرّكات رشيقة عبر الخريطة الممتدة؛ لكنّ رهاناتها تبدو عرضة للتقلّبات أو محفوفة بمحددات صعبة وينتهي بعضها بخيبات أمل مشهودة.
يواجه النفوذ الفرنسي في دول الساحل والصحراء، مثلاً، تحدّياً مستمراً من واقع الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية المحتملة في بلدان فقيرة ومأزومة ومُستنزَفة الموارد، وكذلك بفعل تشكيلات متمرِّدة على دول هشّة مرتبطة تقليدياً بباريس وفق علاقات ما بعد الاستعمار. تشهد تطوّرات مالي على هذا التحدِّي الحرج بالنسبة لفرنسا؛ فالبلد الإفريقي العالق في قعر الفقر دفع في صيف 2020 بأنباء مُقلقة لباريس رغم نفوذها السياسي والاقتصادي العميق وحملاتها العسكرية السابقة فيه.
وأسفرت الرقعة الليبية عن وجه آخر من معضلات فرنسا الخارجية. ففي مارس/آذار 2011 سارعت الطائرات الحربية الفرنسية إلى بدء غارات جوية فوق ليبيا، في استهلال عمليات "التحالف الدولي" الذي ضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا ودولاً أخرى في مواجهة نظام العقيد القذافي.
راهنت باريس بأدوات الحرب والسياسة على تغيير يُتيح لها الاستفادة من ترتيبات جديدة في بلاد تختزن الطاقة وتُحاذي الصحراء الكبرى الموضوعة في صميم الاهتمام الفرنسي.
لم تشهد ليبيا أياماً سعيدة من بعد، فالبلاد الممتدة على مليون وثلاثة أرباع مليون كيلومتر مربع صارت حطاماً بعد تدخلات خارجية وضعت نصب أعينها الموارد النفطية والموقع الجيوستراتيجي للبلاد التي تحظى بساحل بامتداد 1850 كيلومتراً على البحر المتوسط.
احتدمت المنافسة خلال ذلك بين باريس وروما على الرقعة الليبية، بما أذكى – مع أدوار خارجية أخرى - الأزمة الليبية وأطال أمدها وأهدر فرص الحلّ السياسي تحت وطأة الاستقطاب بين شريكين أوروبيين سعى كل منهما إلى قطع الطريق على الآخر، مع حزمة أدوار دولية وإقليمية متعارضة.
انحسرت حظوظ فرنسا في ليبيا بعد إخفاق رهانها على اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وكان للإسناد التركي لحكومة الوفاق الليبية تأثيره الحاسم في هذا الشأن. ومع هذه الكبوة الفرنسية تقدّمت الدبلوماسية الألمانية في المشهد الليبي عام 2020 بصفة تبدو مريحة لتركيا بالنظر إلى دور برلين في إحداث توازن في العديد من المواقف الأوروبية والدولية.
لم تكن حظوظ فرنسا في المشهد السوري أفضل حالاً، رغم حضور باريس المبكِّر في التطوّرات السورية بدءاً من سنة 2011 ضمن توليفة "أصدقاء سوريا". باشرت فرنسا لاحقاً عمليات قصف جوي في العمق السوري تحت عنوان التحالف الدولي ضد "داعش"، علاوة على استثمارها في الورقة الكردية. ثم تآكل الدور الفرنسي إزاء الأدوار الروسية والأمريكية والتركية، خاصة بعد سلسلة التطورات الميدانية في الشمال السوري.
ومع تصاعد التوتر في شرق المتوسط على خلفية أزمة ترسيم المياه الإقليمية وملف التنقيب عن الغاز؛ أظهرت فرنسا اندفاعة سريعة بإعلانها عن تعزيز وجودها العسكري في شرق المتوسط. ظهرت باريس في خندق أثينا التي تقود التصعيد مع أنقرة، فتخلّت فرنسا بهذه الخطوة عن الدبلوماسية ومساعي الحوار، دون أن تضمن تحقيق الردع في مواجهة الحضور التركي الواثق بالذات في منطقة التنقيب البحري.
https://www.youtube.com/watch?v=DVYUeCSbuxM&feature=emb_logo
تتجلّى حدود القدرة لدى الدولة العظمى سابقاً في ملفات عدّة. وجّهت القيادة الفرنسية في السنوات الأخيرة نقداً لحلف شمال الأطلسي، بعد إملاءات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لشركائه الأوروبيين بزيادة مساهماتهم في النفقات الدفاعية.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحلف قبيل ذكرى تأسيسه السبعين بأنه "في حالة موت سريري". جاء بعض النقد الفرنسي تعبيراً عن انزعاج من العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري. لم يغيِّر هذا الانزعاج الفرنسي من مسار العمليات ولا من واقع الحلف، ولم تتبلور في المقابل أي بدائل عسكرية أوروبية كالتي نادى بها ماكرون، الذي أقلق بعض شركائه الأوروبيين الشرقيين الذين يعتمدون على حماية الأطلسي لبلادهم الواقعة على تخوم روسيا.
تحظى فرنسا بنفوذ يمكِّنها من القيام بأدوار خارجية نشطة، لكنّ نهج القفزات السريعة واستسهال خوض المبادرات الانفرادية الخاطفة بدافع من الثقة الزائدة بالذات يؤسِّس آمالاً عريضة قد تذروها الرياح. من خلفيات المعضلة انشداد فرنسا القوي إلى ماضي الدولة العظمى و"الأمة العظيمة" بما يتجاوز قدراتها الفعلية في حاضر يتزاحم فيه اللاعبون دولياً وإقليمياً.
لا تأمن فرنسا على مستقبلها، ولا تنقطع هواجسها من تآكل نفوذها المزمن في أقاليم ظلّت حكراً عليها، بما يدفعها إلى محاولة تعزيز النفوذ واستدامة علاقات التبعية بشتى السبُل.
ثمّ إنّ طبيعة النظام الرئاسي الفرنسي تشجِّع روح المبادرة السريعة وتستدرج سيد الإليزيه إلى اندفاعات متعجِّلة وتحرّكات استعراضية ومبادرات مُغامِرة؛ على نحو لا يُتوقّع مثيله من برلين، مثلاً، بسياستها الخارجية الحذرة وتوازناتها الدقيقة.
ومن المألوف أن يصرف الرؤساء الفرنسيون، مثل غيرهم، الأنظار عن متاعبهم الداخلية بتحركات خارجية ومحاولة إحراز إنجازات سريعة بصفة استعراضية، وهو انطباع يطارد إيمانويل ماكرون الذي صعد إلى الرئاسة بصفة خاطفة دون خبرة سياسية مشهودة؛ لكنه يطمح مثل سابقيه إلى اختطاف الأنظار بإنجازات سريعة، وإن لم تنضج شروطها بعد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس