ياسين أقطاي - الجزيرة نت
أجرينا هذا الشهر انتخابات غير مفاجأة لمن يتابع تركيا من وسائل إعلام حقيقية مهنية تتسم بالواقعية والمصداقية، الوسائل الإعلامية التي تنقل للعالم حقيقة ما يحدث في الميدان بحق ولا تلفق الأوهام والأكاذيب، فعلى الرغم من جميع الأرقام التي نشرتها شركات استطلاع الرأي الكبرى في الأشهر الأخيرة قبل الانتخابات فقد رأينا جميعا نتيجة مختلفة تماما عن تلك التي حدثت في الجولة الأولى.
أتعجب ممن تكون بلادهم على مفترق طرق حقيقي ويجعلون مصادرهم في المعلومات الإعلام المختلق للأكاذيب والمساهم في تأجيج الاستقطاب في مجتمعنا، وهؤلاء كانت الانتخابات بالنسبة لهم محسومة بما لا يدع مجالا للشك لصالح كليجدار أوغلو، المشكلة أنهم لا يدركون كم التضليل والكذب الذي يتعرضون له من هذه المصادر ويسلمون عقولهم وآذانهم لها، فأصبحوا غير قادرين على تكوين رؤاهم الخاصة، وعلى إثر ذلك لا تسير اختياراتهم غالبا في الاتجاه الصحيح.
لقد كان الفرق في النتائج بين عالم التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وبين النتائج التي خرجت من الميدان مربكا جدا ومحيرا للأشخاص الذين تسنى لهم رؤية كلا الجانبين، وكأن هناك عالمين منفصلين لا ينتميان لنفس البلد والظروف.
المؤسف حقيقة أن أولئك الذين كانوا متأكدين من فوز كليجدار أوغلو لم يترددوا في التعبير علانية عما يفكرون فيه ويشعرون به تجاه تركيا وتجاه منافسيهم بشكل خاص إذا فازوا حقا، فعبروا عن البغض والحدة والعدوانية في وقت حرج جدا كان يجب أن تكون المشاعر فيه أكثر ودا، لأن خروجها بهذه الصورة الفجة يشكل تهديدا خطيرا لكل من لا يشبهونهم، بل تهديدا لكل المواطنين الذين من المفترض أنهم يعيشون معا في بلد واحد ويقررون مصيرهم معا عبر صناديق الانتخاب.
إن حالة الاستقطاب العنيف في أي مجتمع هي مقدمة الانهيار الحقيقي، مقدمة الصدام الذي لا تحمد عقباه، إنذار بالمواجهات غير محسوبة العواقب وبوابة التدخلات الخارجية، باختصار هي مقدمة لخراب ودمار لا حدود له على كل المستويات.
والانتخابات الديمقراطية في البلاد لا تُجرى لتأجيج حالة الكراهية والاستقطاب، فيصبح تعايش المجتمع مع بعضه بعد انتهاء الانتخابات أصعب وأسوأ كثيرا مما قبلها.
في الانتخابات السابقة هناك عدد لا يصدق من الناس تحدثوا سابقا عن محاكمة وإعدام بدون محاكمة، وترحيل من البلاد، وسجن، وإبادة، وما إلى ذلك، فأي نوع من الكراهية موجود في النفوس يمكن أن يسفر عنه هذا الحديث! المدهش أنهم عاشوا في ظل هذا المنافس الذين قالوا إنهم سيسجنونه لسنوات، لكن لا أحد يتعلم من الماضي ويوظفه لصالح مستقبله.
يكرهون أردوغان منذ اليوم الأول لانتخابه
نعتقد أن جزءا كبيرا ممن يقولون إنهم سئموا حزب العدالة والتنمية أو أردوغان هم في الواقع لم يصوتوا أبدا للحزب أو أردوغان في أي وقت من حياتهم، ومنذ أن وصل أردوغان إلى السلطة لأول مرة لم يتقبلوه ولم يعطوه الفرصة أبدا لرؤية ما يفعل والإنجازات المستمرة والخير الذي عم البلاد في نواحٍ عديدة، بل كانوا يكرهونه دائما على طول الخط.
باختصار، لم يكن موقفهم المناهض لأردوغان شيئا تراكميا مع الوقت تشكّل في أنفسهم بعد مواقف ورؤى حقيقية، ولكنه كان موقفا ثابتا منذ اليوم الأول، ثم أدت فترة بقائه الطويلة في السلطة إلى تفاقم كرههم له.
هؤلاء لم يكونوا أبدا مهتمين بالنهوض الكبير الذي حصل في الدولة، ولا بالخدمات، ولا الافتتاحات والمشاريع، بل على العكس كانت كلما زادت زاد شعورهم بالانزعاج والمعاداة المجانية رغم أنهم من المثقفين والنخب وأصحاب العقول في البلد.
هذه المرة كانوا متأكدين جدا
في الانتخابات الحالية شكلوا تحالفا غير مسبوق في تاريخ تركيا هدفه الأول الإطاحة بأردوغان مستخدمين نفس الطريقة التي جربوها في انتخابات البلدية، فدخلوا الانتخابات وكأنهم يخططون لعملية موحدة بقيادة شخص واحد، هذه المرة كانوا على يقين من أن المسار الذي اختبروه وجربوه في انتخابات البلديات سيعمل بالتأكيد ويقضي على أردوغان.
كانت هناك العديد من الأسباب التي جعلتهم واثقين من أنفسهم، منها دعم الولايات المتحدة، والصراع المتأجج بين حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني ومنظمة غولن، والترويج لأكذوبة تجاهل أردوغان جيل شباب الألفية، ووجود ملايين المتصيدين على وسائل التواصل الاجتماعي، والهجمة الشرسة التي شنتها وسائل الإعلام الأوروبية، ورجال الأعمال، وغيرها الكثير من العوامل التي تخيلوا أنها ستحسم الأمر لصالحهم دون أدنى شك، لكن الواقع على الأرض كان غير ذلك.
روجوا كثيرا على مدار السنة التي سبقت الانتخابات أنه باجتماع كل هذه العناصر فقد كسرنا شوكة أردوغان، تحدثوا في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بكامل الثقة عن الهزيمة الأكيدة لأردوغان وعن محاسبته بعدها والحكم عليه والانتقام منه، غرتهم هذه العوامل التي أوهموا بها أنفسهم وصدقوها، فلم يألوا جهدا في كشف مشاعرهم وكراهيتهم أمام العالم كله وأمام مواطنينا بلا أي خجل، فصارت لغتهم وخطابهم تشبه لغة وخطاب مجرمي المافيا.
من المصلح؟ ومن المخلص؟
ماذا نتوقع من مجموعة هدفها الوحيد هو الثأر من الرئيس الذي قاد البلاد إلى النهضة التي هي عليها الآن؟ بالطبع لن نتوقع برنامجا انتخابيا متماسكا أو رؤية للارتقاء بالبلاد والناس إلى الأمام، وإنما الوعود الوحيدة هي وعود بالدمار والانتقام في حال فشلهم.
المدهش أننا سمعنا هذا الكلام قبل ذلك في الدورة الانتخابية الماضية، وبعد فوز أردوغان سعى بكل ما يملك من قوة وموارد ليفي بما وعد به الجميع، من صوتوا له ومن صوتوا ضده، من ناصروه ومن وقفوا ضده، الجميع بلا استثناء ما داموا مواطنين تحت راية هذا البلد الكريم نالهم الخير الذي سعى إليه أردوغان لتركيا، لم ينطق بأي كلمة تسيء إلى خصومه، وإنما كان رده الدائم هو الاحتواء والاحترام لجميع شعبه.
تسييس مآسي الشعب
قامت المعارضة بتسييس اهتمامه بضحايا الزلزال أسوأ تسييس، فوصفوه هو والحكومة بسياح الزلزال، ولأن هذا محض كذب وافتراء فقد شعر أردوغان ومحبيه بألم ضحايا الزلزال في قلوبهم، وقاموا بالعديد من الإغاثات لإخواننا المنكوبين على إثر الحادث، من مساعدات مالية عاجلة، وتخصيص 100 مليار ليرة تركية للمساعدات المقدمة إلى ضحايا الزلزال، وتوفير الرعاية الصحية للمتضررين وتقديم العون لهم.
استأجرت الحكومة على الفور غرفا في الفنادق العامة والسياحية لاستضافة متضرري الزلزال وأوقفت الدراسة في الجامعات وحولت المدن الجامعية إلى مأوى لهم.
ومن أجمل المواقف الإنسانية التي تحسب لأردوغان وحزب العدالة والتنمية هو تعمد الحزب أن تكون الحملة الانتخابية بسيطة بعيدة عن البذخ والإبهار والمهرجانات مراعاة لضحايا الزلزال.
كيف يمكن لسياح مناطق الزلازل فهم انتصار تلك المناطق؟
أولئك الذين يجدون صعوبة في فهم الأصوات المدلى بها لأردوغان في مناطق الزلزال لا يمكنهم فهم أي شيء، فهم بعيدون عن فهم المجتمع أو فهم ضحايا الزلزال، ولكونهم بعيدين كل البعد عن الشعور بآلام ضحايا الزلزال منذ لحظة وقوعه فقد كانوا يأملون في شيء واحد من ذلك الزلزال: أن تكون سمعة أردوغان وحزب العدالة والتنمية بأكملها تحت الأنقاض.
كان أردوغان والمجتمع المدني يدعمون الضحايا بعيدا عن السياسة، كما كانت المنظمات الاجتماعية مهتمة بتلطيف أحوالهم وتضميد جراحهم، جميعا كانوا يشعرون بأن آلام ضحايا الزلزال هي آلامهم الشخصية، ولهذا كان الناجون من الزلزال قادرين على التمييز بشكل جيد للغاية بين من كان جزءا من نفس الجسد المتألم يشعر به ويعمل على التخفيف عنه وبين من يستغل آلامه من بعيد، ويمكن لأولئك الموجودين في الشارع أن يعرفوا جيدا هذه الحقيقة.
الناس دائما أذكى مما نتخيل، وقلوبهم قادرة على التمييز بين من يتألمون لآلامهم بشكل حقيقي ومن يستغلون آلامهم لتحقيق مكاسب وهمية.
أردوغان لم يتوقف عن خدمة حتى أولئك الذين لا يصوتون له
بالمقابل، لم يتوقف حزب العدالة والتنمية عن تقديم أفضل الخدمات حتى للمناطق التي لم تصوت له مطلقا منذ سنوات عديدة، ولم يتردد للحظة في تقديم أعظم خدمة في تاريخه للمقاطعات الشرقية التي صوتت لحزب الشعوب الديمقراطي ضد حزب العدالة والتنمية إلى حد بعيد، ولإزمير التي لم تتردد في التصويت لحزب الشعب الجمهوري بقوة، وهذا لن يتغير أبدا، الجميع مواطنون عند أردوغان، من ينتخبه ومن لا ينتخبه.
فكرة أن أردوغان يمكن أن يعاد انتخابه وأنه لم يتم نبذه كما كانوا يتوقعون لن يفوقوا سريعا من صدمتها وستربك اتحادهم وتشككهم في تقديراتهم التي روجوا لها على مدار عدة سنوات، وعلى إثر هذا ستُضرَب مصداقيتهم في مقتل، ولأنهم لا يستطيعون فهم ذلك ورؤيته لا يمكنهم تجنب الهزيمة أمام أردوغان، فهو لم يذق طعم الهزيمة أبدا، وسيكون هذا هو الحال دائما إن شاء الله.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس