محمود علوش - الجزيرة نت
فتحت الجولة الأخيرة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منطقة الخليج آفاقا لتطوير العلاقات التركية الخليجية إلى مستويات الشراكة الإستراتيجية الشاملة. ومع أن الأبعاد الاقتصادية أخذت حيزا أكبر من الاهتمام في هذه الجولة بالنظر إلى طبيعة الاتفاقيات التي أبرمت خلالها، وحاجة تركيا إلى جذب الاستثمارات الخليجية لدعم اقتصادها الذي يواجه تحديات كبيرة في الوقت الراهن، فإن الجولة أعطت صورة عن الكيفية التي يمكن أن تؤدي العلاقات الجديدة الناشئة بين أنقرة والخليج إلى تغيير الشرق الأوسط.
وفي ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة منذ عامين، وتعمل فيها القوى الفاعلة على إصلاح العلاقات في ما بينها، والتخلي عن سياسات التنافس الحاد وتركيز اهتماماتها على المزايا الكبيرة التي يجلبها التعاون الإقليمي عليها وعلى الشرق الأوسط عموما؛ فإن العلاقات الجديدة بين تركيا والخليج سيكون لها تأثير عميق على الجغرافيا السياسية الإقليمية.
وبالإضافة إلى الفوائد الاقتصادية المتبادلة والمؤكدة التي ستجنيها تركيا والخليج من العلاقة الجديدة، فإن تطويرها إلى تعاون في مجالات الأمن والدفاع ومواءمة السياسات الإقليمية يضفيان عليها أبعادا إستراتيجية.
ومع صفقة مبيعات الطائرات المسيرة التي أبرمتها تركيا مع المملكة العربية السعودية، وهي أكبر صفقة في تاريخ صناعة الدفاع التركية، والاهتمام الإماراتي المتزايد في الاستثمار في صناعة الأسلحة التركية، وشراء الكويت طائرات مسيرة تركية، فضلا عن التعاون الدفاعي الوثيق بين تركيا وقطر؛ فإن أنقرة تقدم نفسها اليوم لمنطقة الخليج بوصفها شريكا جديدا يُمكن الاعتماد عليه في مجالات الأمن والدفاع أيضا.
أصبحت دول الخليج عموما أكثر إدراكا لأهمية التعاون مع تركيا في هذا المجال لأسباب عديدة، من بينها التطور الكبير في صناعات الدفاع التركية، وسعي الدول الخليجية إلى تنويع شراكتها الخارجية كوسيلة تحوّط للتكيف مع شرق أوسط جديد لم تعد الولايات المتحدة راغبة في مواصلة انخراطها الأمني فيه مثل السابق.
في الواقع، تتجاوز مبيعات الأسلحة التركية للخليج الأهداف التجارية البحتة، وتعكس أهمية دور تركيا الجديد في الشرق الأوسط كقوة استقرار وتوازن إقليمي.
إن الدور المؤثر الذي تلعبه تركيا في بعض صراعات المنطقة -مثل سوريا والعراق وليبيا- يجعل من التعاون الجيوسياسي معها حاجة لمنطقة الخليج من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي وضمان تأثير خليجي أقوى في هذه القضايا.
لم تساعد الاضطرابات التي دخلتها علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي في السنوات الماضية في مواءمة السياسات الإقليمية بين تركيا والخليج عموما، لكن الظروف اليوم تبدو مساعدة للدفع بهذا الاتجاه. لم تعد سياسات التنافس الإقليمي جذابة بأي حال لمختلف القوى الفاعلة في المنطقة، كما أن هناك قناعة تشكلت في أنقرة والعواصم الخليجية بأن التعاون الثنائي في القضايا الإقليمية يجلب مزايا أكبر لهما ويضمن لهما تأثيرا أقوى على مساراتها.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدم الاستقرار في علاقات تركيا مع بعض الدول الخليجية في السنوات الماضية خلق هامشا لقوى أخرى مثل إيران لتعزيز حضورها الإقليمي، فإن مواءمة السياسات الإقليمية بين تركيا والخليج تُقلص قدرة طهران على مواصلة توسّعها الإقليمي وتساعد في تحقيق التوازن الإقليمي الذي هو حاجة أساسية للاستقرار الإقليمي. مع ذلك، لا ينبغي النظر إلى الشراكة الجديدة بين تركيا والخليج على أنها موجهة ضد طرف ثالث. إنها حاجة للتوازن والاستقرار الإقليمي قبل أن تكون مصلحة للطرفين.
علاوة على الاقتصاد والتجارة والتعاون الدفاعي ومواءمة السياسات الإقليمية، فإن العصر الجديد من المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى يخلق هامشا للقوى المتوسطة مثل تركيا والخليج لتعزيز استقلالها في السياسات الخارجية.
في الوقت الذي تعمل فيه أنقرة على الاستفادة من الصراع الروسي الغربي لتعزيز تموضعها الجيوسياسي كقوة وازنة بين الشرق والغرب، فإن دول الخليج تعمل أيضا على تبني هوية جيوسياسية جديدة توازن بين تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة وبين بناء شراكات مع قوى أخرى مثل روسيا والصين وتركيا. ستُساعد الشراكة الجديدة بين تركيا والخليج الطرفين على تعزيز موقفهما في العلاقة مع القوى الكبرى، فضلا عن ملء الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة في المنطقة وحرمان إيران من الاستفادة منه.
مع أن توتر علاقات واشنطن مع تركيا والخليج لعب دورا في إعادة تشكيل العلاقات التركية الخليجية، فإن هذه العلاقات تبعث على الارتياح في واشنطن ما دام أنها تُساعد الولايات المتحدة في مواصلة تخفيف ارتباطها مع المنطقة ودفع حلفائها إلى إدارة شؤونهم باعتماد أقل عليها. كما أن التفاعل القوي بين تركيا والخليج يجعلهما في موقف أقوى في صياغة علاقاتهما مع كل من موسكو وبكين.
سيكون المستفيد الأكبر من الشراكة التركية الخليجية الجديدة هو استقرار منطقة الخليج على وجه الخصوص. أظهر دعم تركيا لقطر في الأزمة الخليجية عام 2017 والجهود الكبيرة التي بذلتها بعد ذلك لإنهاء هذه الأزمة وإعادة توحيد البيت الخليجي أهمية دورها كصانع استقرار في الخليج. ومع العلاقات القوية التي تبنيها اليوم مع مختلف العواصم الخليجية، فإن دورها سيُصبح أكثر أهمية وتأثيرًا للحفاظ على الاستقرار الخليجي. في هذه اللحظة المهمة من تاريخ الشرق الأوسط سيكون للشراكة التركية الخليجية دور مؤثر في عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس