محمود علوش - الجزيرة نت
يعيش الشرق الأوسط منذ 3 سنوات تحوّلات كبيرة في العلاقات بين القوى الفاعلة، ويمكن تقسيمها إلى 5 مسارات تتداخل في ما بينها من حيث التأثيرات المتبادلة، وهي: التطبيع العربي الإسرائيلي، والتقارب التركي العربي، والتهدئة السعودية الإيرانية، والمصالحات الخليجية الخليجية، والانفتاح الإقليمي على النظام في سوريا.
ورغم أن هذه التحولات نقلت الشرق الأوسط من مرحلة التنافس والاضطرابات الحادة في العلاقات الإقليمية إلى مرحلة المصالحات وخفض حدة التصعيد، فإن قدرتها على تكريس الوضع الجديد في العلاقات بين القوى الفاعلة وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة استقرار طويل الأمد؛ لا تزال موضع شك إما لجهة الأطر المعقدة التي تُحدد شكل العلاقات بين بعض القوى كإيران والمملكة العربية السعودية، أو لجهة الطبيعة المعقدة للصراعات الكبيرة كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فضلا عن التأثير الدولي الذي يلعب دورا في تشكيل العلاقات الإقليمية الإقليمية.
من بين هذه المسارات الخمسة، يظهر مساران هما الأكثر قدرة على الاستمرارية والتطور؛ هما التقارب التركي العربي والمصالحات الخليجية. نجحت القمة الخليجية -التي عُقدت في مدينة العلا السعودية في يناير/كانون الثاني 2021 في طي 4 سنوات من الأزمة الخليجية، وتدشين عهد جديد من العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي. وكنتيجة للأزمة التي كانت لها عواقب كبيرة على استقرار منطقة الخليج والحالة الإقليمية عموما، عكست المصالحات التي أعقبت قمة العلا (السعودية القطرية، والقطرية الإماراتية، والقطرية البحرينية، والقطرية المصرية) عودة الأهمية لمجلس التعاون الخليجي كمنظمة قادرة على تنظيم العلاقات بين دول المجلس من جهة، وتعظيم شأن منطقة الخليج في السياسات الإقليمية من جهة أخرى.
علاوة على أهمية الاستقرار الخليجي الذي أضحى ركيزة أساسية في السياسات الجديدة لدول مجلس التعاون، فإنه أصبح حاجة للتكيف مع حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الالتزام الأميركي بأمن منطقة الخليج، وضرورة لإعادة تشكيل علاقات دول الخليج بالقوى الكبرى. ويعزز هذه العوامل مجتمعة الاعتقاد بأن العلاقات الجديدة بين دول الخليج قابلة للاستقرار لفترة طويلة.
كان للتحول الخليجي بعد قمة العلا تأثير إيجابي بشكل خاص على العلاقات التركية العربية عموما، والتركية الخليجية خاصة. ويُمكن القول إنه شكّل أرضية مناسبة لإحداث تحول جذري في علاقات أنقرة مع خصومها الإقليميين السابقين كالسعودية والإمارات ومصر.
تشير الجولة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منطقة الخليج إلى أن العلاقات الجديدة التي تسعى أنقرة وكل من الرياض وأبو ظبي لإقامتها لن تقف حدودها عند التخلي عن سياسة التنافس السابقة فحسب، بل تهدف إلى تطويرها إلى شراكات إستراتيجية مُتعددة الأوجه، على غرار الشراكة الإستراتيجية القوية التي تجمع بين تركيا وقطر.
مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التحوّلات التي طرأت على الوضع الإقليمي في الأعوام الثلاثة الماضية، وتأثير حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الدور الأميركي في المنطقة في إعادة تشكيل العلاقات التركية الخليجية، فإن مسار التقارب التركي الخليجي قابل للاستقرار لفترة طويلة، وسيكون له تأثير قوي في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.
في غضون ذلك، يظهر إطار أوسع للتحول في العلاقات الإقليمية لتركيا، ويتمثل في إصلاح العلاقات مع مصر والحوار مع النظام في سوريا. جزئيًّا، يعمل التقارب التركي المصري على نقل العلاقات بين البلدين إلى مرحلة جديدة، لكن فرص استقرارها لفترة أطول مرهونة بقدرتهما على إيجاد أرضية واضحة لمعالجة التنافس بينهما في ليبيا. على العكس من ذلك، فإن آفاق التحول في العلاقات التركية السورية لا يزال غير واضح ويواجه تعقيدات كبيرة تُضعف قدرته على إحداث وضع جديد مستقر في العلاقة بين أنقرة ودمشق.
على عكس المسارين التركي العربي والخليجي الخليجي، فإن المسارات الثلاثة الأخرى في تحولات الشرق الأوسط أقل قدرة على الاستقرار لفترة طويلة. ففي التطبيع العربي الإسرائيلي، من غير المُرجح أن يؤدي بأي حال إلى تحقيق خرق جوهري في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لا يرجع ذلك فحسب إلى أن هذا التطبيع لم يكن مُصمم أساسا لإيجاد حل نهائي وشامل لهذا الصراع، بل أيضًا لصعود اليمين المتطرّف في إسرائيل.
تعمل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الوقت الراهن على ضم المملكة العربية السعودية إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، وأوردت وسائل إعلام أميركية أن الرياض تُرهن إقامة علاقات مع تل أبيب بإبرام اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة والحصول على أسلحة أميركية أكثر تقدما ودعم برنامجها النووي المدني. بمعزل عن الدوافع المتعددة للتحول الذي طرأ على العلاقات العربية الإسرائيلية في السنوات الثلاث الماضية، فإنه قدرته في التأثير على ديناميكية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي محدودة.
تبرز التهدئة السعودية الإيرانية كأحد المتغيرات الكبيرة التي طرأت على الشرق الأوسط، لكن قدرتها في خلق واقع جديد قابل للاستقرار في علاقات البلدين تبدو ضعيفة أيضًا. بالإضافة إلى الآثار المرتبة على تطبيع محتمل بين السعودية وإسرائيل على العلاقات الجديدة التي تسعى الرياض وطهران لإقامتها، فإن اختبار النوايا بين البلدين سيستغرق وقتًا طويلا قبل تطوير هذه التهدئة إلى علاقات مستقرة.
وبينما تأمل السعودية أن يؤدي تقاربها مع إيران إلى دفع طهران لممارسة نفوذها على الحوثيين في اليمن من أجل الانخراط في عملية سلام لإنهاء الحرب، فإنه لا تظهر في الأفق أية بوادر قوية للوصول إلى سلام مستدام في اليمن ويعالج الهواجس الأمنية للسعودية بشكل كامل. علاوة على ذلك، فإن القضايا الأخرى المؤثرة على العلاقات الإيرانية السعودية مثل البرنامج النووي الإيراني والقضايا الإقليمية الأخرى التي يتنافس فيها البلدان كالعراق ولبنان تبدو بعيدة عن المعالجات الكاملة لها؛ مما يجعل التهدئة السعودية الإيرانية أكثر عرضة للمخاطر في المستقبل وأقل قدرة على الاستقرار.
أخيرا، يشكل الانفتاح الإقليمي على النظام في سوريا أحد معالم التحولات في الشرق الأوسط، لكن تأثيره المتوقع على مسار الصراع يبقى ضعيفًا؛ إما من جهة محدودية التأثير العربي على الصراع مقارنة بالدور الذي تلعبه كل من إيران وتركيا وسوريا، أو لجهة العقوبات الأميركية المفروضة على النظام، والتي تُشكل عائقًا كبيرًا أمام تطوير العلاقات الجديدة بين بعض الدول العربية والنظام إلى انفتاح أوسع.
يبدو الشرق الأوسط اليوم بفعل المسارات الخمسة للتحولات التي تجري فيه مختلفا بشكل كبير عما كان عليه قبل 3 سنوات، لكنه لا يزال بعيدا كل البعد عن التحول إلى منطقة استقرار. لا شك أن الدبلوماسية النشطة بين القوى الفاعلة في المنطقة تُساعد في تهدئة حدة الاضطرابات الإقليمية، لكنّها لن تؤدي بالضرورة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي ما دامت لا تُعالج بشكل جذري الدوافع الكامنة وراء الاضطرابات الإقليمية، ولا تُعالج الدوافع الكامنة وراء الصراعات المُعقدة؛ مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع السوري ومُعضلة البرنامج النووي الإيراني والدور الإقليمي لإيران.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس