د. مصطفى الستيتي - ترك برس
كثيراً ما نسمع أو نقرأ من أناس كثيرين- سواءٌ كانوا باحثين ولهم علاقة بعلم التّاريخ أو أناس عادّيين- كلامًا مفاده أنّ الأتراك العثمانيين استولوا على البلاد العربية بقوة السّيف وبقهر أهاليها ودون رضا منهم، ثم مكثوا فيها سنين طويلة وتركُوها وقد غرقت في التخلف والفقر. ويتساءل هؤلاء عمّا جلبه لهم العثمانيّون طيلة الفترة التي مكثوا فيها في بلاد العرب؟
الحقيقة أنّ كيل الاتهامات شيء سهل لمن لم يكلّف نفسه عنت البحث في هذه المواضيع بطريقة علمية وبوسائل صحيحة توصله إلى الحقّ، فمن طبْع الإنسان اللّجوء إلى الإجابات الجاهزة وتصديق أكثر الكلام الذي يصله. وهذا ما نلمسه في حياتنا اليومية فما بالك بأحداث تاريخية مرّت عليها مئات السّنين. ولذلك رأينا من المفيد الولوج إلى مثل هذه المواضيع رغم علمنا بكونها شائكة من أجل تسليط بعض الضوء على ما يكتنفها من غموض ومن لغط كثير.
مع الأسف تُعتبر هذه الادعاءات وأمثالها ادعاءات سياسيّة أكثر من كونها أقوال تستند على ما يوثّقها أو يدعمها علميّا، والقوى السّياسيّة التي تمسك بزمام الحكم في البلدان التي عاشت تحت ظل الإدارة العثمانية عصورًا عدّة هي التي تُشيع مثل هذه الدّعايات لكي تخفي سوء إدارتها وعجزها عن حل مشاكلها. فلم تكن الدّولة العثمانية تفرض نفسها على الشّعوب المظلومة، بل ربما كانت تستجيب لمطالب تلك الشّعوب المسلمة وغير المسلمة عن طريق رغبة أهلها في العيش في ظل عدالتها وأمنها. ولا شكّ أن دولة عاشت أكثر من ستمائة سنة لها حسناتها ولها سيئاتها، لكن حسنات هذه الدولة أكثر بكثير من سيئاتها لو تأمّلنا تأمّلاً منصفًا.
وقد ذكر الأستاذ الدكتور أحمد أق كوندوز في كتابه "الدّولة العثمانية المجهولة" أنّ أحد أصدقائه من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية نقل له نصّ دعاء من أرشيف بعض الكنائس كان يدعو به الرهبان والقساوسة في الكنائس البلقانية "يا ربّ يسّر لنا الدُّخول في ظل الحكم العثماني لكي نَستطيع العيش في ديننا بأمان". ومن الجدير بنا هنا أن نورد ما قاله الشّيخ محمد عبده في لائحة كتبها للسلطان عبد الحميد" أعتقد أنّ الأساس الأول في هذا الزّمان من العقائد هو الإيمان بالله، والثاني هو الإيمان بالنبي، والثّالث هو الإيمان ببقاء الدّولة العثمانية".
ومن الأمثلة على ما ذكرنا سابقا أنه عندما تعرضت بلدان المغرب العربي في شمال أفريقيا في الربع الأول من الفرن السادس عشر لخطر الاستيلاء المسحي، وكانت دولها قد أصابها الضعف والوهن، تدخل كلّ من "أوروج رئيس" و "خضر رئيس" وهما من أحفاد أحد الفرسان العثمانيين – وقام هذان الشقيقان البطلان بوقف المسيحيّين وببذل جهودهما لمنع الخلافات الداخلية ونجحا بالفعل في ذلك.
وكان مسلموا الجزائر يعرفون أنّ الأوروبيين على أهبة الاستعداد للوثوب على مسلمي المغرب وتمزيقهم شرّ مُمزق، فلم يجدوا حلا سوى الالتجاء إلى السلطان ياووز سليم برسالة استنجاد بعثوها بها إليه. وقد قام الأستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي بترجمة هذه الرسالة المحفوظة في قصر طوب قابي باسطنبول تحت رقم 4656.
والرّسالة موجهة من سكان بلدة الجزائر على اختلاف مستوياتهم ومؤرخة في أوائل شهر ذي القعدة عام 925هـ، نوفمبر عام 1519م، وكانت الرّسالة باسم القُضاة والخطباء والفقهاء والأئمة والتجّار والأعيان وكافة سُكان مدينة الجزائر، وهي تفيض بالولاء العميق للدّولة العثمانية. والجُملة الآتية من الرّسالة تلخّص موضوعها "نحن نودّ أن نكون من أتباع الدّولة العثمانية، وأن نبقى ضمنها كولاية، وإذا كان من الممكن فنرجو أن تُعيّنوا "خضر رئيس" واليا علينا". وبالفعل سارع السّلطان سليم إلى منح رتبة بكلر بك إلى خير الدين بربروس وأصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة في إقليمه ممثلاً للسّلطان، وبذلك أصبحت الجزائر تحت حكم الدّولة العثمانية وأصبح أيّ اعتداء خارجي على أراضيها يعتبر اعتداء على الدّولة العثمانية.
ومثلما كان الأمر في المغرب العربي فقد قام العرب في المشرق العربي أيضا بدعوة الدّولة العثمانية ورحّبوا بها، وقد كان ذلك قبل فتح مصر بوقت طويل. وكان العرب في المشرق العربي يرون أن الخلاص من ظلم المماليك لا يكون إلا عن طريق الدخول في ظل الحكم العثماني.
يقول الكاتب "عبد الله رضوان" في كتابه "تاريخ مصر" بأن علماء مصر كانوا يلتقون سرّا بالسّفير العثماني ويشتكون له من التصرفات المخالفة للشّريعة الإسلامية التي يقوم بها السّلطان الغوري، وأنهم ينتظرون من السلطان العثماني فتح مصر. ولم تكن سوريا مختلفة في هذا الموضوع، إذ يذكر المؤرخون بأنّه عندما خرج السّلطان الغوري من مصر ووصل إلى حلب عن طريق الشّام عجب كثيرًا من سماعه صبية حلب وهم يهتفون في مدخل مدينة حلب بحياة السلطان سليم ويقولون "ليساعدك الله تعالى يا سلطان سليم".
ونريد هنا أيضا تقييم الرسالة والعريضة التي كتبها علماء وقضاة وأشراف مدينة حلب وقدموها إلى السلطان سليم، وأصل هذه العريضة لا يزال محفوظا في متحف "طوب قابي" في إسطنبول، وقام الدكتور محمد حرب بترجمة هذه الوثيقة إلى اللغة العربية، وفعلا كان علماء حلب وقضاتها وأعيانها وأشرافها قد اجتمعوا وتدارسوا وضعهم، وفي نهاية الاجتماع قرر قضاة المذاهب الأربعة في حلب وعلماؤها وأشراف المدينة كتابة عريضة باسم أهالي حلب ضمّنوها مطالبهم لتقديمها للسّلطان العثماني سليم. وذكروا فيها أن أهالي سوريا قد أصابهم العنت من ظلم المماليك وأن السلطان إن رغب في فتح سوريا فإن الأهالي على استعداد تام للترحيب به.
وهناك مواقف أخرى يمكننا ذكرها في هذا المقام، فعندما دخل الاستعمار الفرنسي إلى تونس وأيقن الأهالي أن نجم الدّولة العثمانية بدأ في الأفول من بلادهم حرّروا الرسائل والعرائض وأرسلوا بها إلى اسطنبول طلبا للنّجدة والتدخل السريع لتخليصهم من يد المحتل الفرنسي. وقد كنّا أوردنا في عدد سابق من "الضمير" العريضة المكتوبة باللغة العربية والموقعة من قبل 59 من أعيان تونس ووجهائها إلى اسطنبول للتدخل وإدراكهم قبل فوات الأوان، وتوجد عريضة أخرى بالعربية موجهة من وجهاء مدينة صفاقس وأعيانها بالمعنى نفسه نوردها في وقت لاحق.
فلو كان هؤلاء ينظرون إلى الوجود العثماني في تونس باعتباره احتلالاً، كما قيل، فكيف يطلبون دوام بقاء المحتل ببلادهم؟ في الحقيقة إنّ للعرب والأتراك في الماضي مواقف مهمّة في الاتّحاد والتّعاون لنشر الخير والعلم في أقطار العالم والأمر نفسه في الوقت الحاضر، وإنّما دبّ الخلاف بينهما بسبب جهل كلّ طرف بالآخر، وبسبب ما دسّه الأعداء فيما بينهم من السّموم والكراهيّة، ولن تزول هذه الأفكار الخاطئة والمشوهة إلا بالمعرفة الصّحيحة المبنية على الوثائق والحقائق، وإعادة قراءة تاريخنا المشترك قراءة متوازنة بعيدا عن الهوى والإيديولوجي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس