إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
في وقت يسهل فيه الخلط بين المعرفة والمعلومة ونسيان معنى الحكمة، فمن المهم أن نحدد المفاهيم الأساسية تحديدا صائبا. وخلال بحثنا عن المعرفة الحقيقية في العالم المعاصر نجد الغزالي أن الغزالي وهو واحد من أبرز علماء المسلمين الذي اهتم بهذه الحكمة.
ولعل السبب في أن الغزالي بز أقرانه هو أنه جاب مختلف المسارات، فدرس العلوم التقليدية وتوصل إلى التوفيق بين الشريعة والتوحيد والفلسفة والميتافيزيقا. يروي الغزالي في سيرته الذاتية " المنقذ من الضلال" قصة رحلته ساعيا مخلصا للمعرفة، والمزالق التي يجب أن يحذر منها الساعون إلى المعرفة والفضيلة حتى لا يضلوا طريقهم.
عاش الغزالي في العالم الفكري والروحي للقرآن والسنة، وأثرى الدرس العلمي الديني بأعماله الخالدة، وتشهد قدرته في الجمع بين مختلف مجالات المعرفة على براعته الشخصية، وعلى المناخ الفكري والروحي الذي ازدهر فيه مفكرا وباحثا. لمع نجم الغزالي في بيئة ثقافية وتعليمية كانت تنظر إلى المعرفة بوصفها الفضيلة العليا، وينال فيها من يحظى بالمعرفة تقديرا عاليا. ومن الواضح أن ذلك نبع من الأهمية التي يوليها القرآن للمعرفة.
يستخدم القرآن الكريم كلمة العلم ومشتقاتها في أكثر من 750 موضعا.وقد تشير هذه الكلمة إلى الوحي أو قصص الانبياء أو المفاهيم الإنسانية أو العالم الطبيعي، وفي كل نموذج من هذه النماذج تشير المعرفة إلى شئ أكبر وأهم من المعلومة، فهي تقوم مقام الآية أو العلامة التي يفك الأذكياء مغاليقها سعيا إلى توسيع إدراك المرء للعالم الذي نعيش فيه، ولغرس الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والنزعة الروحية فينا. تقود المعرفة الحقة إلى الإيمان والفضيلة، لأن جميع المعارف هي في النهاية إشارة إلى مصدر الأشياء كلها.
وبدون معرفة هذا المصدر لا يمكن للمرء أن يملك المعرفة الصحيحة والكاملة للأشياء،مثلما قال أرسطو لا يمكن للمرء أن يحصل على معرفة الأثر دون معرفة السبب. وحيث إن الله هو علة العلل والمصدر الأول، فإن جميع المعارف الحقة لا تنفك عن معرفته سبحانه بوصفه الخالق، وهذا هو السبب في أن القرآن أقام رابطة قوية بين المعرفة والإيمان والفضيلة.
والمعرفة بهذا المعنى ليست رياضة عقلية، وليست مجرد معرفة القراءة والكتابة، وليست أداة للتأثير في عالم الطبيعة، فالمعرفة الحقة هي فعل الانخراط في واقع الأشياء وعملية من التحول الوجودي، وتغير العارف وتنضجه، وهي مسألة فردية عميقة بمعنى أن المرء لا يمكن أن يقف غير مبال بالقوة التحويلية للمعرفة. والمعرفة الحقة لا تمنحنا الحكمة فحسب، بل تقودنا أيضا إلى حياة الفضيلة والرضا الروحي.
يعد الغزالي واحدا من أعظم من جمعوا بين المعرفة والحكمة والفضيلة، ويعرض في كتبه، مثل إحياء علوم الدين، والمستصفى، والاقتصاد في الاعتقاد، ومشكاة الأنوار، وتهافت الفلاسفة، الوحدة الجوهرية بين المعرفة الحاصلة بالإلهام والكشف والمعرفة الحاصلة بالوحي. ومثلما تكشف لنا المعرفة الحقة حقيقة الأشياء كما هي، فإنها تدعونا إلى العمل بناء على هذه المعرفة. ويشبه هذا معرفة كل شئ عن البحر والريح، فهذه المعرفة ضرورية حيث يجب على البحار أن يعمل وفقا لها وإلا فلن يكون قادرا على الإبحار أو الوقوف في وجه العاصفة. المعرفة إذن في حد ذاتها ليست كافية بل يجب على المرء أن يملك الحكمة أيضا، ما يعني التمييز بين الحق والباطل ، وأن ينهج المرء في حياه نهجا أخلاقيا.
وقد بلغ تمسك الغزالي بضرورة الجمع بين المعرفة والحكمة أنه خصص مساحة كبيرة في مقدمة كتابه "معيار العلم في فن المنطق" للحديث عن أهمية اكتساب المعرفة الحقة والحكمة والفضيلة. يبدأ الغزالي كتابه بحمد الله على أنه وهب البشر العقل والفكر اللذين يميزون بهما بين الحق والباطل، ويحكم على معرفة الحواس بأنها قائمة على الجهل والحدس، ويحذر قراءه من الشك الذي لا أساس له، ويحاول أن يعرض لقرائه سبل تحقيق اليقين في المعرفة. وبلغ من مديح الغزالي للعقل بوصفه الأداة الرئيسة للوصول إلى المعرفة الحقة والفضيلة حدا قد يجعل المرء يخطئ ويصفه بالعقلانية المتوحشة. لكن على الرغم من مديح الغزالي للعقل بوصفه أهم هبة وهبها الله للإنسان إلى جانب هبة الخلق، فإنه لم يكن عقلانيا، بل كان يضع العقل في مكانه المناسب.
إن اكتساب المعرفة الحقة عمل بالغ الأهمية ، ويتطلب التزاما فكريا وروحيا، وبهذا النحو ينتقل المرء من المعلومة إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الحكمة، ومن الحكمة إلى الفضيلة والصقل الروحي. ومن المهم هنا أن نتذكر أننا عندما نظن بتعال وغطرسة أن لدينا كل المعلومات على شاشة الحاسوب، فإن هذه الشاشة مهما كانت دقتها لا يمكنها أن تمنحنا المعرفة والحكمة والفضيلة، وعلى المرء أن يعرف أين يبحث عنها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس