ترك برس

تناول تقرير للكاتب والمحلل التركي نيدرت إيرسانال، الاستراتيجية التركية في تفكيك تنظيم "حزب العمال الكردستاني - بي كي كي" الإرهابي ونزع سلاحه، باعتبارها تمثل مرحلة حاسمة لكنها ليست المحطة النهائية.

وناقش التقرير التداعيات الإقليمية والدولية لهذه الخطوة، وتأثيرها على الأمن القومي والسياسة الخارجية لتركيا، إلى جانب انعكاساتها على دول الجوار مثل سوريا والعراق وإيران.

وسلط الضوء على التحديات التي تواجه أنقرة، بما في ذلك الديناميات الخارجية الداعمة للتنظيم، والمواقف الدولية، خاصة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل.

كما أبرز المناورة السياسية التركية، والتوقيت الدقيق للخطوات المتخذة، في ظل المتغيرات الجيوسياسية، مثل الصراع في فلسطين، والانتخابات الأمريكية، والعلاقات الإقليمية.

وأشار إلى أن تركيا تتبع استراتيجية تعتمد على الضغط الشامل والتخطيط المدروس لضمان تحقيق أهدافها في مواجهة التنظيمات الإرهابية.

وفيما يلي نص المقال:

إن النص الصادر عن إمرالي، سواء قُرِئَ بين السطور، أو من منظور استراتيجية التفكيك، أو فُكِّكَت عناصره وخضعت للتحليل، يمثل المرحلة الأهم في تاريخ المساعي الرامية إلى نزع سلاح التنظيم الإرهابي وتفكيكه.

إلا أنه لا يزال مجرد مرحلة، وليس المحطة النهائية. إن ما يجب أن يكون سبباً للنجاح والتقدير يتمثل في فهم أنقرة لهذه القضية، وتقييمها الدقيق للتطورات الإقليمية والدولية، وأخيرا، تنفيذها لخطة عمل وفقًا لهذه المعطيات.

وفي حال بلوغ الهدف المنشود، سيكون هناك تأثيرات ونتائج على السياسة الداخلية التركية، وستمتد إلى دول الجوار، وخاصة سوريا والعراق وإيران، فضلًا عن منطقة الشرق الأوسط برمتها، بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط وقبرص. ولن تقتصر هذه التداعيات على النطاق الإقليمي فحسب، بل ستطال العلاقات مع أوروبا وغرب آسيا ودول الخليج والقارة الإفريقية، بالإضافة إلى تداعياتها على علاقات تركيا مع القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا.

 

قيمة "القوة المضافة"

إن إنهاء وجود التنظيم الإرهابي، دون ترك أي هامش للضبابية، سيضيف إلى معادلة الأمن القومي والسياسة الخارجية والنفوذ والقيمة الاستراتيجية لتركيا قوةً وسرعةً مضاعفتين، تمامًا كـ "المنتجات ذات القيمة المضافة " في الاقتصاد.

وهذه الخطوة السياسية، التي هي سلسلة من الحركات التي تتسم بالتنظيم الدقيق والإيقاع المنتظم، هي ذات توجه خارجي في الأساس، إنها موجهة إلى الخارج وليس إلى الداخل. ولذلك، لا بد من أن تستند إلى الديناميات الخارجية. فتركيا بلغت في إطار "مكافحة الإرهاب"، أقصى درجات النجاح الممكنة داخل حدودها، ووصلت إلى نقطة مثالية غير مسبوقة في مجال الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وما تبقى هو مواجهة الديناميات الإقليمية والدوائر الخارجية التي تدعم التنظيم الإرهابي، وتتيح له تغيير رعاته وفقًا للظروف، وتسمح للتنظيم بالانتقال من حضن إلى آخر.

وهذا لا يعني أن القضية منفصلة تمامًا عن الداخل؛ إذ ستنعكس تداعياتها داخليًا عبر المشهد السياسي اليومي. فالمعارضة الحالية، بتناولها السطحي والمتردد لهذه التطورات، وموقفها الرمادي من القضية، ودعمها بفتور دون تحمل أعباء هذه المرحلة نظرا لتعلقها بالإرهاب، تدرك في قرارة نفسها أن التغييرات الداخلية المتسارعة ستحدّ من قدرتها على تحقيق مكاسب سياسية.

المناورة التركية

إن توقيت ظهور "الضربة القاضية" كعمل ملموس ضد الجهات التي تسعى لفرض سياساتها على تركيا والمنطقة عبر التنظيم الإرهابي، هو انعكاس لكيفية قيام أنقرة بتوضيح معالم العالم الجديد المضطرب، ونزع الغموض عنه.

لقد أكد الرئيس رجب طيب أردوغان مرارًا وتكرارًا أن الإرهاب سينتهي بحلول عام 2025. إلا أن هذه التصريحات تعبر عن نهجٍ عام أكثر من كونها إجراء عمليا مباشرا. وكانت الخطوة الاستراتيجية الأولى الكبرى هي توجيه دعوة استثنائية إلى نظام الأسد لـ"إعادة تطبيع العلاقات. ومن المعروف مسبقًا أن دمشق لن تستجيب لهذه المبادرة، إلا أن هذه الخطوة كانت تحمل دلالات واضحة على ما سيحدث لاحقًا في سوريا، كما أنها ساهمت في تهدئة المخاوف لدى القوى الراسخة في المنطقة مثل روسيا وإيران. هذه الحركة في جوهرها، تمثل ما يُعرف في استراتيجيات الشطرنج بـ"غامبت"

ولأن إعلان هذه الخطوة يتطلب فترة من الحسابات الدقيقة والتخطيط الاستراتيجي، ينبغي العودة إلى الوراء أكثر لفهم المسار الذي أدى إليها. فقد غذت العديد من التطورات المتتابعة هذه المبادرة. ومن أبرز هذه العوامل الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والتي جعلت تنفيذ الخطة أكثر إلحاحًا وأشد ضرورة. وأخيرًا جاء التصريح المفاجئ للسيد دولت بهجلي ليكون أحد الهجمات الرئيسية التي بلغت فيها الخطة ذروتها.

وعند العودة إلى الوراء أكثر، نجد أن التقييمات بشأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في 5 نوفمبر قد أشارت مبكرًا إلى فوز ترامب قبل ظهور نتائج الانتخابات، مع التنبؤ بتداعياته على سوريا وروسيا وأوروبا. واليوم يتضح أن تركيا قد أصابت إلى حد كبير في حساباتها. وعلى الرغم من وجود بعض المساحات الرمادية، فإن القدرة على التنبؤ واستباق مثل هذه التطورات في مرحلة الاضطراب العالمي تستحق الإشادة. وهذا هو ما يمكن وصفه بـ"النجاح الحقيقي".

التوقعات المنطقية

إن إدراج هذه العملية في السياق العالمي يجعلها أسهل ويسرع وتيرتها. والرد على السؤال حول كيفية استجابة تنظيم "بي كي كي/واي بي جي" الإرهابي لهذا الإعلان، سيتم بناء على هذه الأرضية.

إن موقف تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، و"واي بي دي" و"قسد"، فضلاً عن موقع قنديل والامتداد الأوروبي للتنظيم، وحتى حزب "DEM"، إضافةً إلى العراق وسوريا، كلها عناصر حاسمة في رسم معالم الرد المحتمل. وقد يكون لكل منها ردود مختلفة، ولكن مواقعها الجغرافية، ومواقف دول مثل الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وفرنسا في ظل النظام العالمي الجديد، هي التي ستحسم النهاية.

كما أن علاقات أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب موقف بريطانيا من الحرب في أوكرانيا، والتوترات التي تشوب علاقتها بواشنطن، ستؤثر على موقفها من التنظيم في أوروبا. فالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فضلًا عن سعي القارة الأوروبية لتعزيز أمنها، قد يسهمان في تضييق الخناق على التنظيم. ومن هذا المنطلق يمكن فهم الرسائل الإيجابية التي تبعث بها أنقرة مؤخرًا إلى الاتحاد الأوروبي. كما أن علاقات تركيا الثنائية مع دول المنطقة التي ذكرناها، بما في ذلك مشروع "طريق التنمية" مع العراق، والتغيرات في بنية الحكم بسوريا، ونفوذ أنقرة في دمشق، تندرج ضمن السياق ذاته.

مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل

من جهة أخرى، يثير صمت الولايات المتحدة الكثير من التساؤلات. فإدارة ترامب لم تصدر سوى تصريحات قليلة حول سوريا والتنظيم الإرهابي، ولم يرد عنه سوى تصريح وحيد مفاده أن "هذا الأمر سيتكفل به الأتراك"، في إشارة إلى قدرات الجيش التركي، الذي وصفه بأنه "قوي وغير منهك".

ومن المعلوم أن ترامب خلال ولايته السابقة حاول الانسحاب من سوريا، لكنه واجه معارضة شديدة من "الدولة العميقة"، التي عرقلت تلك الخطوة. أما اليوم فإن هذه المنظومة، وعلى رأسها البنتاغون، تتعرض لهجوم من البيت الأبيض، كما أنها تبدي تباطؤًا واضحًا في التعامل مع ملف "واي بي جي/قسد". ولا يمكن إغفال التصريحات الإيجابية التي صدرت عن "واي بي جي/قسد" بشأن الحوار مع دمشق، وإمكانية الاندماج مع الجيش السوري، والتي تعكس حالة من الضغط والتراجع. ولكن رغم ذلك، لا يمكن الوثوق بهذه التصريحات إلا بعد أن تتجلى نتائجها على أرض الواقع. ولكن هناك إحساس بـ"اتجاه" ملموس في الموقف.

أما بالنسبة لإسرائيل، الدولة الأكثر ارتباطًا بالتنظيم الإرهابي، فتأثيرها على ترامب قد لا يكون مثل تأثيرها على بايدن، لكنها تبقى اللاعب الأكثر إشكالية وخطورة. وعليه يجب أن نأخذ في الحسبان الضغوط التي تمارسها إسرائيل على سوريا.

وفي الختام، يمكن القول إن الاستراتيجية التي تتبعها تركيا تعتمد على الضغط الشامل، حيث تسعى إلى تحريك جميع الأطراف نحو نفس المسار، بل وإجبارهم عليه، باستخدام أسلوب حذر ومدروس. نأمل أن تكلل هذه الجهود بالنجاح، إن شاء الله.

أهنئكم بحلول هذا الشهر المبارك.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!