ترك برس

قال الكاتب والإعلامي التركي سلجوك تورك يلماز، إن التوتر الحالي بين الولايات المتحدة وأوروبا لا يمكن تفسيره على أنه انعكاس للصراعات الطبقية، وهذا أمر جلي، ففي القرون الماضية، برزت كل من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة بسياساتها الإمبريالية.

وأوضح تورك يلماز في مقال بصحيفة يني شفق أن الأيديولوجيات القائمة على الصراع الطبقي أتاحت تسويق التاريخ المحلي للدول الإمبريالية على أنه تصميم عالمي، غير أنّ محدودية هذه التصاميم العالمية التي يروج لها، باتت اليوم أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. فقد كان اتساع رقعة الديمقراطية الليبرالية ممكنًا طالما أنه يفسح المجال للمخططات العالمية للدول الإمبريالية. 

ورأى أن صمت الأيديولوجيات ذات النزعة الأوروبية المركزية أو عدم قدرتها على تقديم حلول فعالة لا يمكن فهمه إلا ضمن هذا الإطار، وقد كانت الدول الأمريكية والأوروبية تدين بعالميتها في أوقات السلام أساسًا للهيمنة. ولذلك فإنه من التطور الطبيعي أن تخضع الأيديولوجيات والمفاهيم العالمية للمساءلة عندما تزعزع هذه الهيمنة. إن الحاجة إلى أفكار جديدة لفهم الأحداث تبرز كنتيجة طبيعية لهذا الوضع الطبيعي.

و تابع المقال:

وفي الفترات التي كانت فيها الهيمنة الغربية المرتكزة على أوروبا والولايات المتحدة في أوج قوتها، كان توصيف الأحداث بشكل دقيق أكثر صعوبة مقارنة بالوقت الحاضر. ولعلّ هذه الصعوبة هي التي أدت إلى التباس بعض المفاهيم وخلق حالة من الإرباك الذهني. فعلى سبيل المثال، كان يُنظر إلى الولايات المتحدة، قبل حرب الاستقلال على أنها "مستعمرة"، بل إن بعض الآراء كانت تتبنى هذا الطرح فتقول: إن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على فهم البلدان المستعمَرة بشكل أعمق بحكم تجربتها التاريخية. ويمكننا أن نتوقع أن يصل الباحثون في تاريخنا الفكر إلى نتائج مختلفة تمامًا انطلاقًا من هذه التصريحات.

وقد أدى انتشار مفهوم الاستعمار إلى ترسيخ اعتقاد مغلوط بأن الولايات المتحدة كانت ذات يوم "مستعمَرة"، غير أن الحقيقة التاريخية تكشف أن الولايات المتحدة، منذ فترة المستعمرات، تشكلت من خلال بريطانيا كولايات لدول أوروبا الإمبريالية في أمريكا الشمالية. وكان المستعمرون هم السكان الذين يعيشون في تلك المستعمرات نفسها. لقد اتبع المستوطنون الأوروبيون الذين عاشوا في هذه المستعمرات الجديدة سياسات توسعية بشكل دائم. وعليه، فإن هذه الكيانات لم تكن في أي وقت من الأوقات "مستعمرات" بالمعنى الحديث. ولذلك فإن فكرة أن الولايات المتحدة يمكنها أن تفهم الدول "المستعمرة" من خلال تجربتها في الماضي "المستعمر"، تقوم على مغالطة خطيرة. فالولايات المتحدة كانت نتاجًا لمشروع أوروبي، وكانت تمثل محاولات توسعية في الأراضي البعيدة، ولم تشهد في تاريخها أي صراع ضد الاستعمار الأوروبي، ولذلك فإن فكرة أن الولايات المتحدة يمكنها أن تفهم الدول المستعمرة بشكل أفضل، فكرة لا أساس لها من الصحة.

حسنًا، هل خلقت أوروبا، من خلال الولايات المتحدة، وحشًا جديدًا؟ وهل سينقلب هذا الوحش على الأراضي الأوروبية عندما يفقد قدرته على التمدد نحو "الغرب المتوحش"؟ ما هو معنى التوتر الحالي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية اليوم؟ وهل يجب تعريف العلاقة بين الدول الإمبريالية باستخدام المفاهيم المستمدة من التاريخ المحلي لأوروبا والولايات المتحدة؟ وهل سيؤثر هذا التوتر الحالي على مصير المشاريع الاستعمارية التي نفذتها الولايات المتحدة وأوروبا معًا؟ على سبيل المثال، تُعد "إسرائيل" مشروعًا استعماريًا وإمبرياليًا مشتركًا بين الولايات المتحدة وأوروبا، فإلى أي مدى يمكن أن يتأثر هذا المشروع بالتصعيد الداخلي بين الطرفين؟ ينبغي أن تؤخذ هذه التساؤلات على محمل الجد، فهي ليست مجرد أسئلة عابرة نشأت من تلقاء نفسها.

قبل عقدٍ واحد فقط، كانت الولايات المتحدة وأوروبا تمهدان الطريق لثورات عُرفت بأسماء مختلفة. وكانت العديد من الدول والمناطق تسعى للحفاظ على وجودها في مواجهة الهجمات الإمبريالية الجديدة. صحيح أن "الثورات الملونة" كانت ذات تأثير، ولكنها في الوقت ذاته هيأت الأرضية لتشكّل خط مقاومة قوي. ففي تركيا على وجه الخصوص، إلى جانب العديد من المناطق والدول الأخرى، برزت جبهات مقاومة صلبة ضد محاولات الحصار من الداخل والخارج. واليوم تتجلى أهمية هذه الجبهات بصورة أوضح. ولا شك أن هذه الجبهات لم تتشكل وفقًا لمقاربات طبقية محضة، بل إننا نلاحظ انقسام المجموعات الأيديولوجية ذاتها إلى طرفين: أحدهما يميل إلى الإمبرياليين، والآخر إلى جبهات المقاومة. ومن الواضح أننا بحاجة إلى مفاهيم وأدوات تحليلية جديدة لفهم هذا المشهد المعقد.

ومن الضروري إيلاء أهمية للمفاهيم والمناهج الجديدة. فلو كنا في حقبةٍ سابقة، ربما لم يكن تحليل التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا اليوم ليُعدّ أمرًا ذا أهمية كبيرة. ففي سياقاتٍ معينة، كان من الممكن ترجيح أحدهما على الآخر، مع البحث عن سبلٍ لتفادي عداء الطرف الآخر. ولكن مثل هذه المواقف كانت تعني الخضوع منذ البداية. وفي الواقع، فإن التوتر الحالي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية ينبع أساسا من رفض الخضوع. وهذا بدوره يؤكد مدى أهمية جبهة المقاومة التي تم تشكيلها. فالتوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا ليس إلا تجليًا لمواجهة وعداء أوسع نطاقًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!