احسان الفقيه - خاص ترك برس
قال نور الدين اليُوسي المُلقَّب بـ "غزالي عصره" في كتاب "زهر الأكَم في الأمثال والحِكم": "الاستئناس بالمألوف مركوز في جلِيَّة النفوس".
وتلك الحقيقة التي يُبرزها اليوسي يُعبّر عنها ميل الشعوب إلى الاستقرار وإيثارها الأوضاع المألوفة على المجازفة بتحمُّل أوضاع أخرى مُحتملة.
دائما تستغل الأنظمة والحكومات ميل الشعوب إلى الاستقرار في تثبيت أركان حكمها، فتسعى للوصول بالشعوب إلى حالة من الرضا عن الأوضاع الراهنة ولو كانتمأساوية، بفزّاعةِ ما يحدث لدول أخرى خرجت عن المألوف إلى أوضاع جديدة أوردتها المهالك.
ولذا يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي بشأن المواطن في هذا النموذج: "لا شك فإن هذا الإنسان بين قوتين: قوى سلبية تريد إرجاعه إلى الوراء باستغلالها طبيعةالاستقرار في الإنسان، وقوى إيجابية تدفعه إلى الامام وإلى تحقيق مستقبله، فينبغي ألا تضعف القوى الإيجابية فينا عن الوصول إلى الحضارة".
ففي هذه الحال لابد من طرح المألوف لأنه لا يمثل الاستقرار، بل هو كسُكونِ الأموات.
وفي مقابل هذه الصورة، هناك صورة أخرى للاستقرار المزعوم، تقضي بأن ينسلخ الشعب من هويته الدينية والثقافية والوطنية ليذوب في الآخرين بحجة تحقيقالاستقرار، وهذا ما عابه المفكر الإسلامي محمد الغزالي على أحد الصحفيين النازعين للذوبان في الحضارة الغربية، فقال الغزالي: " الاستقرار الذى ينشده لتركيا ومصروغيرهما من أقطار الشرق الإسلامى هو التخلص من الماضى بما حوى، والاندماج فى الغرب اندماجا لا شائبة فيه.
وهو ما يعمل له هذا الصحافى الماجن وغيره فى دَأَب"، وهو نفس الخط الذي سار عليه العلمانيون في تركيا، الذين رأوا أن استقرار تركيا ونهضتها طريقه تغريب الأتراكوسلخهم من هويتهم.
وبعض الأنظمة المستبدة لا تدّخر جهدًا في استغلال رغبة الشعوب بالاستقرار في إزاحة المعارضين ولو من خلال القتل وإسالة الدماء، ومما سجله التاريخ للرئيسالإندونيسي الأسبق سوكارنو، قوله الصريح في مهرجان الشباب الشيوعي بجاكرتا عام 1965: " إن الاستقرار لن يكون إلا بإراقة الكثير من الدماء، فالطريق نحو هذهالغاية صعب جدا، ولكننا يجب ألا تأخذنا الرحمة أو الشفقة".
وعلى نفس الوتيرة سارت الثورات المضادة للربيع العربي، التي قسّمت الشعوب واستقطبت شرائحها في التفويض بقتل وإراقة دماء الشرائح الأخرى المناهضة بحجةالوصول إلى الاستقرار.
وينقلنا الحديث عن الاستقرار إلى الحالة الراهنة في تركيا والتي تعيش أجواء الانتخابات المصيرية سواء على صعيد الرئاسة أو البرلمان، فالاستقرار هو أحد أبرز المسائلالمفصلية في الحملة الدعائية لأردوغان وحزبه، والذي يُمثل التصويت لهما انتخاب الاستقرار.
لكن استثمار رغبة الشعب في الاستقرار في نموذج أردوغان وحزب العدالة والتنمية، يختلف عن النماذج السالفة المذكورة، لأنه يرتكز على معطيات واقعية وتجربةديموقراطية نهضوية حاضرة عاشها الشعب التركي ولا يزال، فخلال 16 عامًا من تولي فريق العدالة والتنمية زمام الأمور حدثت طفرة اقتصادية انتقلت بموجبها الدولة منذيل قائمة الاقتصاديات العالمية إلى المرتبة الـ 16 وضمن أقوى عشرين اقتصاد في العالم، ما أنعكس على معدل دخل المواطن التركي بدرجة ملحوظة لم تشهدها أي حقبةمضت.
وخلال هذه الفترة تم التغلب على مشكلات مُزمنة تتعلق بالكهرباء والمياه والقمامة والبطالة بصورة قوية، وزادت القوة الإنتاجية والاكتفاء الذاتي بصورة غير مسبوقة،وتبوّأت الجمهورية التركية في هذه الحقبة موضعًا حيويا على المستوى الإقليمي والدولي، وتم تحييد الجيش ووضعه في مكانه الطبيعي بعيدًا عن التحكم في المسارالسياسي الأمر الذي يعني تجنب الانقلابات، إضافة إلى القوة الناعمة التركية التي اجتاحت الوطن الإسلامي والعربي.
إذن فهذا القدر من الرفاهية والازدهار والتقدم يُمثّل الذروة التي وصلت إليها تركيا منذ انهيار الخلافة العثمانية ولم يتحقق في ظل أي حكومة أو قيادة أخرى، فعلى أيأساس سوف ينصرف الشعب التركي عن انتخاب أردوغان وحزبه؟
العدول عن انتخاب أردوغان وحزب العدالة والتنمية يعني التصويت لصراع الفائز الآخر مع أوضاع تم إرساءها ومن بينها النظام الرئاسي الذي صوّت عليه الشعب،والصراع ربما مع أوضاع أخرى أمنية كملاحقة التنظيمات الإرهابية خارج الحدود، كما أنه من المحتمل الدخول كذلك في صراع مع علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسيةمع دول تم إقرارها في حقبة أردوغان، كل هذه الأمور تنبئ بحالة من الركود وتوقف عجلة التنمية، الأمر الذي ينتج عنه تراجع مستوى معيشة المواطن التركي بالدرجةالأولى.
انتخاب أردوغان يعني تثبيت وضع جيد على الأقل مع أن المتوقع هو استمرار دوران العجلة نحو تركيا الحديثة، بخلاف انتخاب مرشح آخر وحزب آخر، فهذا يعني بدءأوضاع جديدة مجهولة الوجهة والمسار.
المواطن التركي بعد المكانة التي وصلت إليها تركيا صار مُشبَّعًا بحُزمة من المشاعر الإيجابية المتعلقة بالعزة والوطنية والتمسك بالهوية، خاصة بعد إحباط الانقلاب الفاشلقبل عامين، وهذه المشاعر اقترنت بحقبة أردوغان وفريقه، لذا يُتوقع أن يتجه عموم الشعب إلى التصويت لصالح ذلك الاستقرار، بينما تبقى الشرائح المُؤدْلَجة تسير وفقتوجيه الأحزاب المعارضة، وإن هي إلا أيام وتُزفُّ البشارات لتُبهج قلوب المُخلصين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس