د.محمد علي الصلابي-خاص ترك برس
1 ـ اسمه ونسبه:
الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين العابدين أبو حامد ابن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط . وقد نسبه البعض إلى غزالة ـ بتخفيف الزاي ـ وهي بلدته التي ولد فيها، وهي نسبة صحيحة من حيث اللغة، والبعض نسبه إلى الغزَّالي ـ بتشديد الزاي ـ نسبة إلى الغزَّال حرفة والده التي كانت يكتسب منها، وهي نسبة صحيحة أيضاً من حيث اللغة.
2 ـ نشأته ومولده:
ولد بـ (طوس) ، سنة خمسين وأربعمئة هجرية، وأما والده، فقد كان فقيراً صالحاً لا يأكل إلا من كسب يده، حيث كان يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، وكان يختلف في أوقات فراغه إلى مجالسة العلماء، ويطوف عليهم، ويتوفر على خدمتهم، ويجدُّ في الإحسان إليهم والتفقه بما يمكنه عليهم، وكان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع إلى الله أن يرزقه ابناً يجعله فقيهاً وواعظاً، فرزقه الله بولدين هما أبو حامد، وأخوه أحمد. غير أن الأقدار لم تمهله حتى يرى رجاءه قد تحققت ودعوته قد استجيبت، فقد توفي وما يزال أبو حامد صغيراً لم يبلغ سن الرشد . أما أم (أبي حامد) فقد عاشت حتى شهدت بزوغ شمس ابنها في سماء المجد، وتبوُّؤَه أكبر مركز علمي في ذلك العهد .
وكان والده قد أوصى به وبأخيه إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديّ هذين، فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه بهما، فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلا أن ذلك النَّزر اليسير الذي خلفه لهما أبوهما ما فتأى أن نفد، وتعذر على الصوفي القيام بقوتهما، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد لا مال لي فأواسيكما به، وأَصْلَحُ ما أرى لكما أن تلجأا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما، وعلوِّ درجتهما، وكان الغزالي يحكي هذا، ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله .
3 ـ اجتهاده في طلب العلم:
قرأ في صباه طرفاً من الفقه ببلده طوس على أستاذه أحمد بن محمد الرازكاني ، وكان أستاذه الأول بها (يوسف النساج) ، وبعد تناول الغزالي لهذا القدر اليسير من الفقه في بلدته، يشد الرحال إلى جرجان، حيث يلتقي بأستاذه أبي نصر الإسماعيلي، ويدون ما يسمعه منه كمرحلة أولى من التلقي والتعليم، ثم يرجع إلى طوس وفي أثناء رجوعه حدث له ما جعله يحفظ ما كتب، ويفهم ما علم، وفي هذا يقول: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي، ومضوا فتبعتهم، فالتفت إليَّ مقدَّمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، قلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ عليَّ تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدَّعي أنك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم؟! ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة. قال الغزالي: هذا مستَنْطق أنطقه الله ليرشد به أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين، حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي .
4 ـ ملازمته إمام الحرمين:
قدم الغزالي نيسابور، وهي عاصمة السَّلجوقيين، ومدينة العلم بعد بغداد ولازم إمام الحرمين ـ وهو من عرفنا شخصيته وجلالته في العلم والتدريس ـ وجدَّ، واجتهد حتى برع في المذهب، والخلاف، والجدل، والأصول، وكانت العلوم السائدة في عصره، وأعجب إمام الحرمين بذكائه، وغوصه على المعاني الدقيقة، واتساع معلوماته، فكان يقول: الغزالي بحر مغدق . وفاق أقرانه وهم أربعمئة حتى أصبح معيداً لأستاذه ونائباً عنه ، وقيل: إنه ألف المنخول، فراه أبو المعالي، فقال: دفنتني وأنا حيٌّ، فهلا صبرت الان، كتابك غطَّى على كتابي .
5 ـ تعيينه مدرساً على نظامية بغداد:
ولما مات إمام الحرمين عام (478 هـ) ، خرج الغزالي إلى المعسكر قاصداً الوزير نظام الملك، وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من سِنّه، وقد ظهر فضله وذاع صيته، وكان مجلس الوزير مجمع أهل العلم، وملاذهم، وكانت المجالس حتى الماتم لا تخلو من المناظرات الفقهية، والمطارحات الكلامية، فناظر الغزالي الأئمة العلماء في مجلس نظام الملك، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل، وولاّه تدريس مدرسته النظامية ببغداد، وكان ذلك غاية ما يطمح إليه العلماء، ويتنافسون فيه، فقدم بغداد في سنة أربع وثمانين وأربعمئة، ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وقلَّما تقلَّد هذا المنصب الرفيع عالم وهو في هذه السن، درَّس الغزالي بالنظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونُكتَهُ الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبُّوه .
قال معاصره عبد الغافر الفارسي: وعلت حشمته ودرجته في بغداد، حتى كانت تغلب حشمه الأكابر، والأمراء، ودار الخلافة ، وكان يقرأ عليه جمٌّ غفير من الطلبة المحصِّلين، يقول في (المنقذ من الضلال) في وصف حاله، والنظامية: وأنا ممنُوٌّ بالتدريس والإفادة لثلاثمئة نفس من الطلبة ببغداد . وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة .
6 ـ من أسباب نبوغ الغزالي وشهرته:
تجمعت عدة عوامل كانت سبباً في نبوغ الغزالي وشهرته ؛ منها:
ـ نشأته العلمية: فقد كان شغوفاً بالعلم، باحثاً عن اليقين، وعن حقائق الأمور، ودرس علوم عصره، ونبغ فيها، وفاق أقرانه.
ـ ما كان يتمتع به من حافظة قوية.
ـ ما كان يتمتع به من شدة الذكاء، فقد كان شديد الذكاء، سديد النظر، مفرط الإدراك، بعيد الغور، غواصاً على المعاني الدقيقة.
ـ تدريسه بالمدرسة النظامية التي أنشأها السلاجقة لتعليم مبادئ أهل السنة، فقد كان ذلك من أسباب شهرته .
7 ـ التحول الكبير الذي غير مجرى حياته:
بلغ الغزالي في تلك الأيام قمة المجد، وأتته الدنيا خاضعة ذليلة، أتته بالمال والشهرة، وذيوع الاسم، كما أتته بالجاه ونفوذ الكلمة، واستمتع بذلك كله، ومع ذلك لم ينقطع عن طلب العلم، فطالع العلوم الدقيقة والكتب المصنفة فيها. مما كان له كبير الأثر في التحول الكبير الذي غير مجرى حياته، فيما بعد .
ولنترك للإمام الغزالي الحديث، فهو خير من يشرح لنا قصته في هذا التحول: ابتدأت بمطالعة كتبهم مثل (قوت القلوب) لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد..، فعلمت يقيناً: أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد ظهر عندي: أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكفِّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله: قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.
ثم لاحظت أحوالي: فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي، وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الاخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير صالحة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني أشفيت على النار؛ إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً، وأؤخِّر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا وتحمل عليها جنود الشهوة جملة فتفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟! وإن لم تقطع هذه العوائق فمتى تقطع؟!، فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان، ويقول: هذه الحال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيض، والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليك نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الاخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إليَّ، فكان لساني لا ينطق بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة..، ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر، الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب .
وغادر الغزالي بغداد في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمئة، فحج وتوجه إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، قضى بعضها في بيت المقدس، وكان غالب وقته فيها عزلة وخلوة، ورياضة ومجاهدة للنفس، واشتغالاً بتزكيتها، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، وكان يعتكف في منارة مسجد دمشق طول النهار .
8 ـ عودته للتصدي للتعليم:
ثم عاد بعد تلك العزلة التي استمرت عشر سنوات إلى بلده طوس، ليتابع عزلته سنة أخرى. وتحت إلحاح الولاة، وتكرار طلبهم بالخروج إلى الناس.. خرج إلى نيسابور ليدرس بالمدرسة النظامية فيها، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة (499 هـ) ، وقال في ذلك: ويسر الله الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمئة، وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة ، ويشرح لنا الغزالي عودته إلى التعليم، وأنها كانت بأسلوب جديد، ونية جديدة، وهدف جديد يختلف كل الاختلاف عما كان عليه سابقاً، فيقول: وأنا أعلم أني وإن رجعت إلى نشر العلم، فما رجعت، فإن الرجوع عود إلى مكان. وكنت في الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي، وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه، ويعرف به سقوط رتبة الجاه، هذا هو الآن نيتي وقصدي، وأمنيتي، يعلم الله ذلك مني، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري؟ ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة: أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وأني لم أتحرك لكنه حركني، وأني لم أعمل ولكنه استعملني، فأسأله: أن يصلحني أولاً، ثم يصلح بي، ويهديني، ثم يهدي بي، وأن يريني الحق حقاً، ويرزقني اتباعه، ويريني الباطل باطلاً، ويرزقني اجتنابه .
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة إقرا، القاهرة، 2006، ص466-472.
عبد الفتاح محمد سيد أحمد، التصوف بين الغزالي وابن تيمية، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى 1420 هـ 2000 م.ص50
شمس الدين محمد أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة. (19/173).
شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان، وفيات الأعيان، مراجعة وزارة المعارف العمومية، الطبعة الأخيرة، دار المأمون، مصر، 1936 م. (1/207)
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس