د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
فتح مكة المكرمة حدث عظيم من الوقائع الفاصلة في تاريخ الإسلام التي أعز الله فيها دينه وأذل أعداءه، فبهذا الفتح خسر الكفر أهم معاقله وحماته في بلاد العرب، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجا وأصبحت مكة قلعة منيعة لدين التوحيد والهداية. (فتح مكة نقطة التحول الكبرى لمسيرة الإسلام)
إنَّ هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماضٍ طويل الفصول كيف خرج مطارداً، وكيف يعود اليوم منصوراً مؤيداً، وأي كرامة عظمى حفه الله تعالى بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناء، وقد حدث هذا الفتح العظيم في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة، حيث استطاع المسلمون من خلاله فتحَ مدينة مكة وضمَّها إلى دولتهم الإسلامية.
ارتكبت قريش خطأً فادحاً عندما أعانت حلفاءها بني بكرٍ على خُزاعة حليفة المسلمين بالخيل، والسِّلاح، والرِّجال، وهجم بنو بكرٍ، وحلفاؤهم على قبيلة خُزاعة عند ماءٍ يقال له: الوَتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها، (الواقدي، 2/781).
ولـمَّا لجأت خُزاعة إلى الحرم الآمن، ولم تكن متجهِّزةً للقتال، لتمنع بني بكرٍ منه؛ قالت لقائدهم: يا نوفل! إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك، إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر! أصيبوا ثأركم، (السِّيرة النَّبوية، لابن هشام، 4/39) عندئذٍ خرج عمرو بن سالم الخُزاعيُّ في أربعين من خُزاعة، حتَّى قدموا على رسول الله(ﷺ) في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكرٍ، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريشٍ بني بكرٍ عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله(ﷺ) وهو جالسٌ في المسجد بين ظهراني النَّاس، فقال:
يَا رَبِّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا
حِلْفَ أَبِيْنَا وأَبِيْهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُم وُلْداً، وَكُنَّا وَالِدا
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يدا
فانْصُرْ هَدَاكَ الله نَصْراً أَعْتَدَا
وادْعُ عِبَادَ الله يأْتُوا مَدَدَا
فِيْهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا
إِنْ سِيْم خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِيْ فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبِدَا
إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا
ونقَضُوا مِيْثَاقَك المُؤَكَّدا
وجَعَلُوا لي في (كَدَاءٍ) رُصَّدا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أدْعُو أحدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَـيَّـتُونَا بالوَتِيْرِ هُجَّدَا
وقَتَلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
فقال النبي(ﷺ) : «نُصرتَ يا عمرو بن سالم! لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب!» ولـمَّا عرَض السَّحاب مِنَ السَّماء؛ قال: «إنَّ هذه السَّحابة لتستهلُّ بنصر بني كعبٍ». [البيهقي في الكبرى (9/233 - 234)، وفي الدلائل (5/6 - 7)، وابن هشام (4/36 - 37)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/278)].
إنَّ هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماضٍ طويل الفصول كيف خرج مطارداً، وكيف يعود اليوم منصوراً مؤيداً، وأي كرامة عظمى حفه الله تعالى بها هذا الصباح الميمون، وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعاً وانحناء، وقد حدث هذا الفتح العظيم في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة، حيث استطاع المسلمون من خلاله فتحَ مدينة مكة وضمَّها إلى دولتهم الإسلامية.
ما قبل فتح مكّة:
كان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ينظم العلاقة بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات، وكان من بنوده المهمة أنه “من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخله” فدخلت قبيلة “خزاعة” في تحالف مع المسلمين، ودخلت قبيلة “بكر” في تحالف مع قريش.
وقد أدت التطورات والأحداث التي أعقبت صلح الحديبية إلى تغير في ميزان القوى بين المسلمين وقريش لصالح المسلمين؛ لأن المعاهدات التي تعقد في ظل اختلال موازين القوى لا بد أن تتغير عندما تتغير هذه الموازين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم -تقديرا منه لعهده وميثاقه- حافظ على ما ورد في صلح الحديبية، عالما ومدركا أنه لا بد من وقوع حادثة من جانب قريش تعصف بالصلح، وتجعل المسلمين في حل من التزاماته. وصدقت الرؤية النبوية، حيث إن قبيلةَ قريشٍ انتهكت الهدنةَ التي كانت بينها وبين المسلمين، وذلك بإعانتها لحلفائها من بني الديل بن بكرٍ بن عبد مناةٍ بن كنانة في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ المسلمين، فنقضت بذلك عهدَها مع المسلمين المتفق عليه بينهم في صلح الحديبية.
دخول مكة والنصر المبين:
وردّاً على ذلك، تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في شهر رمضان الكريم متجهاً إلى مكة فاتحاً بعد أن أخرجوه منها متخفيا يخشى القتل من قبل ثمان سنوات كاملة، وكان تعداد المسلمين في ذلك الفتح العظيم عشرة آلاف مقاتل، وفى الطريق إلى مكة قابل النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس مهاجراً وكان قد أسلم منذ زمن طويل وكان عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراسلات، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أرسل له ليخرج.
وعندما اقترب الجيش الإسلامي من مكة المكرمة وحلَّ الظلام أمر النبي صلى الله عليه سلم أن يشعل كل جندي في الجيش نارا فصارت عشرة آلاف شعلة من النار، فدخل الرعب قلوب مشركي قريش، وخرج أبو سفيان مع نفر من صحبه ليعرفوا الخبر فقابلهم العباس وأخبرهم بالأمر وأخذ معه أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مزية وجعل له مكانة حينما قال: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن)، ثم أمر بحبسه ليمر عليه الجيش الإسلامي بكل فرقه، فاستشعر أبو سفيان عظم أمر الإسلام ومدى قوته، ورأى كيف أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذاك الذي خرج قبل سنوات في ظلمات الليل متخفياً عن الأنظار، واختفى ثلاثة أيام في غار ثور صار اليوم يحرك جيشاً قوامه عشرة آلاف مجاهد لو أمرهم أن يزحزحوا الجبل من مكانه لفعلوا.
وتحرَّك الجيشُ حتى وصل مكة، فدخلها سلماً بدون قتال، إلا ما كان من جهة القائد المسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه، إذ حاول بعضُ رجال قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل التصديَ للمسلمين، فقاتلهم خالدٌ وقَتَلَ منهم اثني عشر رجلاً، وفرَّ الباقون منهم، وقُتل من المسلمين رجلان اثنان. ودخل النبي مكة مهللاً ومكبراً فاتحاً منتصراً عزيزاً دائماً أبداً، ومن حوله المهاجرين الذين طردوا بالأمس من ديارهم وأهليهم، وحوله الأنصار الذي استقبلوه خير استقبال فكانوا نعم الأصحاب هم وإخوانهم المهاجرين، وجاء بلال ذلك الحبشي الأسود الذي عذبه أمية بن خلف من قبل أشد عذاب، وصعد على البيت الحرام وأعلن انتصار الحق وهزيمة الباطل وكبر وأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وجعل يطعنُ الأصنامَ التي كانت حولها بقوس كان معه، ويقول: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» و«جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، ورأى في الكعبة الصورَ والتماثيلَ فأمر بها فكسرت وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخُرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام، فقال الرسولُ محمدٌ صل الله عليه وسلم: «قاتلهم الله؛ لقد علموا ما استقسما بها قط».
وقال أيضاً: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوط والعصا-ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم، فأراد عليّ أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن الرسولَ دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلاً: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء»، ولما تم فتح مكة على الرسول محمد صل الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم: «أترون رسول الله إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها»، وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه، فلما فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟»، قالوا: «لا شيء يا رسول الله»، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال: «معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم».
لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامةٌ سوداءُ بغير إحرامٍ، مستشعراً نعمة الفتح، وغفران الذُّنوب، وإفاضة النَّصر العزيز، وعندما دخل مكَّة فاتحاً ـ وهي قلبُ جزيرة العرب، ومركزُها الرُّوحيُّ، والسِّياسيُّ.
لا تثريب عليكم اليوم:
نال أهلُ مكة بعد الفتح عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، فقالوا: «خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، فقال: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ». وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها عند المسلمين، فهم يؤمنون أنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الرب تعالى.
الخطبة الخالدة:
وفي اليوم الثاني قام رسول الله وألقى خطبته المشهورة، وفيها: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهْيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ" وأقام الرسولُ محمد بمكة تسعة عشر يوماً، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره».
نتائج فتح مكة المكرمة:
كان من نتائج فتح مكة اعتناقُ كثيرٍ من أهلها دينَ الإسلام، ومنهم سيد قريش وكنانة أبو سفيان بن حرب، وزوجتُه هند بنت عتبة، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وغيرُهم. وكذلك دخلت مكةُ تحت نفوذ المسلمين، وزالت دولة قريش منها، وأصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العرب. وتحققت أمنية الرسولِ محمد بدخول قريش في الإسلام، وبرزت الدولة الإسلامية قوةً كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها.
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: "السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث"، للدكتور علي محمد الصلابي.
المصادر والمراجع:
1. علي محمد الصلابي، السيرة النبوية -عرض وقائع وتحليل أحداث، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة السابعة، 1429هـ – 2008م، 388، 427.
2. أكرم ضياء العمري، المجتمع المدني في عهد النبوة، الطبعة الأولى، 1983م، ص179.
3. البخاري، صحيح البخاري، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، رقم 4059، 4288.
4. ابن هشام، السيرة النبوية، دار الكتاب العربي، ط3، 1410 -1990، ج4 ص59-60 – 62.
5. محمد فوزي فيض الله، صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، دار القلم -دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط1، 1416 – 1996، ص396.
6. ابن كثير: السيرة النبوية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت -لبنان، 1976، 3/ 564 -570.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس