ترك برس

كلما أثيرت تساؤلات عن سبب تصاعد العنصرية في تركيا، يعترض أحدهم بسؤال: هل تعتبرون حقاً أن في تركيا توجد عنصرية؟! يرجع هذا التساؤل التعجبي إلى عدة أسباب.

الأول، أن هذه الأيديولوجية الشائنة (العنصرية) لا تليق ولا تلائم الشعب التركي. وثانياً الاعتقاد الخاطئ بأن العنصرية موجودة فقط في الغرب، وأنها ظاهرة لا يمكن تطبيقها إلا على ذوي البشرة السوداء، حيث إن تعاطف الأتراك مع ذوي البشرة السوداء أدى إلى نشوء تصور مفاده أن الأتراك بعيدون عن العنصرية.

القومية التركية كغيرها من القوميات، يكمنُ بداخلها نوع من العنصرية. فعندما بدأت الدول القومية بالظهور في القرن الـ20، أثرت بشكل عميق على كل من الشرق الأوسط وتركيا. وحينها قد أُثيرت تساؤلات بين النخب الإصلاحية العثمانية حول سبب التأخر عن الدول الغربية في القرنين الأخيرين من فترة حكم الدولة العثمانية، فوجدت النخبة آنذاك أن الحل هو زيادة البحث والاستكشاف عما يفعله الغرب وتقليده. 

وتم بالفعل تنفيذ الإصلاحات بالطرق الغربية، فبدأت أولاً بالمؤسسة العسكرية ثم المؤسسات السياسية والمالية والإدارية. رغم ذلك، أثارت خسارة الأراضي العثمانية لصالح الدول الغربية مشاعر الإعجاب والكراهية تجاه الغرب؛ مما أدى في نهاية المطاف لنشوء توجه علماني غربي متطرف داخل النخبة العثمانية ألقى باللوم في الهزيمة على الثقافة والتقاليد الإسلامية.

وكان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، أحد أبرز ممثلي هذا التوجه، فألغى السلطنة والخلافة العثمانية، ليؤسس نظاماً علمانياً.

واتخذ أتاتورك إجراءات فعلية من شأنها أن تقرب تركيا من الحضارة الغربية، منها استبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية. كما حاول تأسيس "عقلية اجتماعية علمانية فوقية حنفية سنية إسلامية تركية" تمت صياغتها تحت مسمى "لاهاسوموت" (Lahasümüt).

ساهمت الأيديولوجية التأسيسية والمناهج الدراسية في تركيا في إنتاج فئة من الأشخاص تكره العنصر الأجنبي وتعتبره معادياً ومصدراً للخطر. وتعتقد هذه الفئة أنه يجب إبقاء الأكراد والعلويين والمتدينين وغير المسلمين تحت المراقبة داخل البلاد. كما تصف العرب واليونانيين والبلغاريين، جيران تركيا الجدد، والذين كانوا جزءاً من الدولة العثمانية قديماً، على أنهم أعداء دائمون. ورغم كون هذه الفئة معجبة بالدول الغربية، فإنها ترى أن الغرب دائماً يطمع في بلادنا. ولذلك هذه الأفكار الموجودة في المجتمع دائماً ما تهيئ لإمكانية ظهور العنصرية.

ما الأسباب وراء تصاعد موجة العنصرية في تركيا؟

أما اليوم فهناك سببان رئيسيان في انتشار موجة العنصرية في تركيا؛ الأول المشاكل الاقتصادية، والثاني أوميت أوزداغ (رئيس حزب الظفر التركي). ولو تطرقنا إلى السبب الأول نجد أن تركيا نفذت سياسات اقتصادية خاطئة في السنوات الأخيرة الماضية؛ مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة الليرة التركية؛ ما أدى إلى إفقار الناس بشكل كبير. خاصة بعد المحاولة الانقلابية 15 يوليو/تموز 2016؛ حيث تسببت العقوبات الاقتصادية الناجمة عن الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في حدوث أضرار كبيرة للاقتصاد التركي. 

أما السبب الثاني الذي يتمثل بـ"أوميت أوزداغ" فنلاحظ أنه حظي بشعبية خطيرة، وذلك من خلال تناوله مسألة تدفق المهاجرين إلى تركيا، خاصة القادمين من سوريا وأفغانستان، على أجندته اليومية.

 أوزداغ أكاديمي من خلفية قومية، قام بتأسيس حزب "الظفر" بعد ممارسته السياسة في حزبي الحركة القومية و"الجيد". بعبارة أخرى، مارس أوزداغ السياسة في جميع الأحزاب ذات الأيديولوجية القومية في تركيا. فوالده مظفر أوزداغ كان أحد الضباط الذين شاركوا في انقلاب عام 1960. وتنحدر أصوله من داغستان، الجمهورية التي تقع اليوم داخل حدود روسيا؛ مما يعني أنه في الواقع من أصول مهاجرة.

أوميت أوزداغ، هو خيرت فيلدرز تركيا، فهو زعيم مُدمِّر مارس حياته السياسية بخداع عبر الترويج للمشكلات الأمنية في البلاد والتطرق للمخاوف من الانقسام والإرهاب. فقبل 20 عاماً، انتقد أوزادغ، هجرة الأكراد من مناطق جنوب شرق الأناضول إلى المدن الرئيسة الكبرى زاعماً أن الإرهاب سيزداد، وستنقسم البلاد من ذلك. واليوم يفعل الشيء نفسه بحق إخواننا اللاجئين السوريين؛ حيث يستخدم أوزداغ مواقع التواصل الاجتماعي بنشاط كالعديد من السياسيين الشعبويين في العالم.

وعلى الرغم من رفض الغالبية للمحتوى الذي ينشره، إلا أنه يواصل النشر دون أدنى خجل. مستهدفاً طالبي اللجوء السوريين والأفغان، بالإضافة إلى أبناء الخليج العربي الذين يأتون إلى تركيا لغرض السياحة. ويؤثر المحتوى الذين ينشره على نحو خاص في فئة الشباب.

إن من يقوّض السلام الداخلي والسياحة في تركيا، هي نشاطات وأفعال أوميت أوزداغ، فبرغم أنه دائم الحديث عن مشكلات الأمن الداخلي، أصبح هو بحد ذاته مشكلة أمنية. وأنا أراهن أنه إذا تضاعف عدد السوريين في تركيا، فلن يشكلوا مشكلة أمنية كبيرة مثل أوميت أوزداغ. إن الغالبية العظمى من اللاجئين السوريين هم مضطهدون فرّوا من الحرب ببلادهم إلى تركيا، ويحاولون إيجاد مناطق آمنة سعياً منهم لبناء مستقبلهم.

ينحدر نصف اللاجئين السوريين، الذي يبلغ عددهم قرابة 5 ملايين، من مناطق حلب وريفها. وبعد المحاولة الانقلابية 15 يوليو/تموز 2016، تسببت سياسة التقارب مع روسيا ضد الولايات المتحدة في التخلي عن مركز مدينة حلب لنظام البعث. لا نعرف ما الذي كانت تهدف إليه السلطات التركية في تلك الفترة، لكن نرى أن هذه الخطوة ضاعفت عدد طالبي اللجوء السوريين وزادت في الوقت نفسه من عدم تقبل المواطنين الأتراك لطالبي اللجوء، فضلاً عن الحد من نفوذ تركيا في سوريا.

إن العبارة التي تتردد بين أبناء شعبنا "لا نريد المزيد من اللاجئين في بلادنا" لا يمكن اعتبارها على الفور أنها عنصرية، بل هي تقصد أن الشعب يطالب بأن يتشارك العالم مساعدة السوريين، وأن تستقبل تركيا حداً معيناً من طالبي اللجوء ومنع قدوم المزيد إلى البلاد فوق هذا الحد.

يعيش السوريون اليوم في وضع صعب جداً من الناحية النفسية. لقد تحول بقاؤهم على قيد الحياة في تركيا إلى حرب أعصاب حقيقية. يعيشون في أجواء لا تُحتمل يتم استهدافهم باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يجدون أنفسهم في مراكز الترحيل في أصغر قضية جنائية يرتكبونها. لقد كانت سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها تركيا تجاه اللاجئين السوريين واحدة من أشرف الأعمال في بلدنا. ولكن إذا لم تنفذ تركيا سياسة معقولة ومقبولة بحق اللاجئين اليوم، فلن تستطيع منع العنصرية في البلاد، وستتعرض تركيا لخطر إنهاء التعاطف الذي اكتسبته من العالم العربي.

من جهة أخرى، حصل حزب "الظفر" الذي يترأسه أوميت أوزداغ على 2% من الأصوات في الانتخابات التركية الماضية، كما حصل المرشح الرئاسي سنان أوغان على 5% من الأصوات. ويرى بعض السياسيين في التيار الحاكم أن أصوات أوزداغ فعالة لأنها تعمل على تقسيم أصوات المعارضة. 

أما المعارضة التركية، التي يتمثل هدفها الوحيد الإطاحة بأردوغان، فلم تتوان عن التحالف مع أوزداغ في الجولة الثانية من الانتخابات. ونتيجة لذلك، من خلال قراءة البيئة الانتخابية في تركيا بشكل جيد، نلاحظ أن أوزداغ ازداد ظهوره وتأثيره على حد سواء.

في الواقع، عمل حزب "الشعب الجمهوري" التركي، وهو حزب المعارضة الرئيسي، على تنفيذ سياسته الرئيسية بطريقة تزيد من العنصرية في تركيا. وادعى الحزب أن المشكلات الاقتصادية والأمنية المستمرة ناجمة عن سياسة الهجرة التي تنفذها تركيا. فعندما وجدوا أن هذا الادعاء له آذان مصغية في المجتمع، بدأوا في إثارة هذه القضية على نحو أكبر. ورغم أن المعارضة الرئيسية قد خففت من حدة النبرة المعادية للاجئين بعد الأعمال الغوغائية الخارجة عن القانون التي جرت بحق السوريين بأنقرة في أغسطس/آب 2021؛ حيث رأت المعارضة أن هذه الأعمال من الممكن أن تتحول إلى عنف اجتماعي خطير. تولى أوميت أوزداغ بعد هذه الأحداث، دون خجل، رفع لواء العنصرية وممارستها علناً.

إن ما يحدث اليوم من توجيهات عنصرية معادية للعرب، هي توجيهات لا تضرب العرب فقط بل الإسلام أيضاً؛ إذ قد ترغب بعض القوى الأجنبية المنزعجة من تركيا في إثارة قضية العنصرية بحق العرب، ولا سيما أن أنقرة قد أقامت علاقات جيدة مع العالم العربي على الرغم من حالة المد والجزر التي كانت تشهدها هذه العلاقات في السنوات الأخيرة الماضية. لذلك، ربما يدعم الغرب بعض الأعمال الاستفزازية والعنصرية في تركيا تجاه العرب. 

بينما ما يتوجب علينا القيام به كسياسيين وأكاديميين وقادة رأي وممثلين عن المجتمع المدني هو زيادة مبدأ الأخوة قبل أن تزداد العنصرية في الانتشار ببلدنا. ويتوجب علينا أيضاً أن نجعل الدولة أكثر حذراً بشأن العنصرية وأن تتخذ إجراءات وقائية وموقفاً أكثر فاعلية. وقد نشرت رئاسة الشؤون الدينية في خطبة الجمعة 1 سبتمبر/أيلول الجاري، خطاباً مناهضاً للعنصرية تحذر فيه من هذا الأمر.

إن العنصرية ظاهرة جديدة بالنسبة إلى تركيا والمجتمع التركي؛ لذلك أتمنى أن نحاول تطوير وتنفيذ طرق فعالة لإنهاء ومكافحة هذه الظاهرة الشائنة قبل أن تنتشر أكثر من ذلك.

**مقال تحليلي للكاتب التركي والنائب السابق في حزب العدالة والتنمية الحاكم محمد ألغان، نشره موقع عربي بوست الإخباري