ليديا بيرد مور - مجلة ري أورينت للفن والثقافة - ترجمة وتحرير ترك برس
في الماضي كان ينظر إلى رواية الكاتب التركي صباح الدين علي "مادونا صاحبة معطف الفرو" على أنها شيء غامض محير. فمنذ صدورها منذ سبعين عاما لم تلق الرواية استقبالا جيدا عندما نشرت للمرة الأولى في عام 1943. في ذلك الوقت لم تكن الرواية معروفة سوى لمن قرؤوها من أولها إلى آخرها وأوصوا أصدقاءهم بقراءتها. على أن الرواية تشهد في الوقت الراهن ولادة جديدة؛ حيث ترجمت إلى عدد كبير من اللغات، وترجمتها أخيرا مورين فريلي إلى الإنجليزية. صارت الشعبية الجديدة التي تتمتع بها رواية صباح الدين علي موضوعا لكثير من الحوارات، لا سيما بين الشباب التركي. منذ عام 1998 بيعت أكثر من مليون نسخة من الرواية، من بينها 750 ألف نسخة في السنوات الثلاث الماضية وحدها. ولكي نضع الأمور في منظورها الصحيح، فإن مبيعات الرواية فاقت مبيعات رواية "غريب في عقلي" آخر رواية لأورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب.
إن السبب في أن هذه الرواية صارت مدار الحديث على مقاهي إسطنبول سبب محير بحد ذاته، لا لأن الرواية لا تستحق ذلك، بل لأن الرواية مرشح مستبعد لأن يكون مدار حديث القراء. الرواية كتبها مؤلف اشتُهر بحادثة وفاته أكثر من عمله. مادونا صاحبة معطف الفرو هي رواية لكاتب قصص قصيرة، قصة حب لا تكاد تحتوى على مضمون سياسي (على الرغم من أن المؤلف قتل بسبب آرائه). الرواية التي تقع في 176 صفحة يمكن قراءتها مثل قيلولة بعد الظهر أو مع احتساء قدح من الشاي، يغرق القارئ في نثر حالم يراه بارزا في سحر شخصيات صباح الدين علي، والحسرة، والزمن الذي تستغرقه الرواية. وعلى الرغم من أن البعض قد يقول إن الرومانسية طغت على رسالة الرواية، فإن الرسالة حاضرة بهدوء، وتترك المرء بشعور دائم من الحزن.
كتبت الرواية بطريقة قصة الإطار، أي قصة في داخل قصة. الرواي عامل شاب طموح يصادق رائف أفندي، عجوز هادئ لا مزية مختلفة له عن الآخرين. وعلى الرغم من الجملة الافتتاحية الواعدة للرواية " قد يكون الإنسان الذي قابلته مصادفة صاحب أكبر تأثير علي في حياتي حتى الآن" فإن الصفحات الأولى لا تعطي سوى لمحة خفيفة عن افتنان الراوي. إن أحد لمحات براعة الرواي في الكتابة تأتي مما يذكره عن أن هناك الكثير عن الرجل العجوز مما لم يذكره من قبل. ويمكن للمرء أن يشعر أن ثمة شيئا ما يخفيه رائف أفندي حتى داخل نفسه، وبالتالي يتتبعه الرواي بافتنان. عندما يمرض رائف أفندي، يسعى الراوي إلى قضاء مزيد من الوقت ليعرف عنه المزيد. وبعد بعض الحوارات المحرجة في منزل رائف، تصير التفاعلات الخجولة واضحة بين رجل يريد أن يعرف المزيد، ورجل يريد أن يخفي. وعندما يرقد رائف على فراش الموت، يؤخذ القارئ في رحلة عبر دفتر ملاحظاته الذي يقدم لمحة عن شبابه في برلين، وعن عالم الملاهي الليلية والمتاحف والحدائق والشوارع لاستكشاف المدينة. عند وصوله إلى ألمانيا، تعلم رائف اللغة الألمانية، أجرى حوارات مهذبة مع الذين يقيمون معه في الفندق، وتجول في شوارع المدينة. ومن هنا تبدأ مغامرة الرواية.
بطريق الصدفة يجد رائف أفندي لوحة بعنوان مادونا في معطف الفرو، في أحد المعارض الفنية، وصار متيما بها. كان يتردد على المعرض في ظهيرة كل يوم وحتى موعد إغلاق المعرض ليستدفئ بوجودها. وهنا تظهر بطلة صباح الدين علي في شكل ماريا بودير، الفنانة المطربة الشابة. ومثل المرأة المرسومة في اللوحة، فإن ماريا واثقة من نفسها، منطلقة، تجمع في توازن بين النقاء والغواية. إنها تختلف عن رائف تماما، ولا تقدم سوى الرفقة، بينما لا يرغب هو سوى في الحب، وأن يكون في علاقة عاطفية معها. أما ما منع هذه الأقطاب المتضادة من البلوغ إلى ذروة خلافاتهما فهي الصورة الحية التي رسمها صباح الدين علي، وتطور العلاقة بين ماريا ورائف بمرور الوقت. ما يمكن أن يُعد قصة حب مبتذلة من طرف واحد ينقذه قراءة الصيغ النثرية في الرواية على الرغم من صوت رائف الحزين. الحوار ليس سريعا جدا ولا شديد العاطفية،فهو يشبه عقول شخصيات صباح الدين علي. السرعة في الحوار تطوف بالشخصيات في جميع أنحاء المدينة بسهولة، في حين أن الصور الوصفية تسمح للقارئ بأن يهرب إلى العالم الذي تخلقه الشخصيات لنفسها، وتسمح لتيمات الرواية أن تبرز من وراء صفحاتها.
وعلى النقيض من أعمال صباح الدين على الأخرى، فإن رواية مادونا صاحبة معطف الفرو يمكن عدها عملا استثنائية؛ لأن روايات علي الأخرى تدور دائما تقريبا في قرى الأناضول، على غرار الروائيين السرياليين المعاصرين له مثل سعيد فائق عباسي، في حين أن النثر في رواية صباج الدين علي يقرأ مثل الشعر في شكل رواية، وتجري الواقعية السوداء من خلال جوهر القصة. هذا وبإضافة الرومانسية المأساوية فإن هذا العمل يقف متميزا إلى حد كبير عن قصص صباح الدين علي القصيرة التي غالبا ما تسلط الضوء على معاناة الفقراء.
وفيما يتعلق بتيمات القصة، فإن التيمة التي حصلت على أكبر قدر من اهتمام القراء الجدد للرواية هي الحرية، والحب من طرف واحد، والقوة ، وأخيرا الافتنان. وقد قيل عن الرواية إنها تطرح تساؤلات عن أدوار الجنسين، وادعى كثيرون أن شعبية الرواية ترجع جزئيا إلى الطريقة التي تتحدى بها ثنائية الذكر/ الأنثى في المجتمع التركي المحافظ. بفضل هذه الرواية التي كتبت منذ قرن تقريبا تنتزع البطلة الأنثى دور الرجل (والعكس بالعكس) ويصوغ صباح الدين علي هذا التعاكس على خلفية انقلاب برلين 1920 ومن خلال عالم الملاهي الليلية المتألق آنذاك. وهذه الصياغة حدية: بين الحروب والعالم، امرأة تأتي إلى الحياة من خلال لوحة . تتبع ماريا، على غير ما هو معتاد إلى حد ما في فلسفتها، شعارها النسوي الخاص، موضحة ذلك لرائف أفندي من خلال التجربة، وأن كل جزء من أجزاء جسدها قد يصير سلعة، فمن جسدها يذهب إلى الفن، ولأنها تعرف ذلك فقد اختارت أن تسيطر على علاقاتها بما في ذلك علاقتها برائف التي تصر على بقائها علاقة أفلاطونية. أما رائف ففي حين قبل هذه الشروط، فإنه كان يهدف إلى المعرفة، والحب، وفهم رغباته الخاصة.
صورة خاصة من مكتبة ابنته فيليز للمرأة الألمانية الغامضة التي يعتقد الكثيرون أنها أوحت لصباح الدين علي بشخصية مادونا
تبدو رواية صباح الدين علي مرآة لسنوات حياته التي قضاها في برلين. وتتضخم مأساة الرواية عند النظر إلى حياة المؤلف في تركيا. صباح الدين علي الذي كان أستاذا للغة الألمانية في الكونسيرفتوار الدولي في أنقرة، تعرض للسجن بسبب مشاركته لقصيدة تنتقد قائد الجمهورية التركية الوليدة مصطفى كمال أتاتورك. وخلال مكوثه في السجن استوحى من معاناة الآخرين كتابة العديد من القصص القصيرة عن فلاحي الأناضول التي اشتُهر بها فيما بعد، إلى جانب كتابة مجموعة من القصائد التي تعبر عن معاناته الخاصة مثل قصيدة (أغاني السجن)، وفي هذه القصيدة فإن استخدام صباح الدين للصور جدير بالملاحظة.
كنت مثل نسر في السماء
جناحاي جريحان
كنت مثل غصن زهرة أرجوانية
تحطمت في فصل الربيع
شهدت حياة صباح الدين علي صحفيا سياسيا انضمامه إلى قائمة طويلة من الكتاب الأتراك الذين سجنوا بسبب آرائهم. تعرض للسجن مرة أخرى في مناسبات أخرى عديدة. قتل علي أثناء عبوره الحدود مع بلغاريا في عام 1948 بعد أن مر بأوقات عصيبة ماليا. وعلى الرغم من أنه زُعم في وقت لاحق أن من قتله هو مهرب يدعى على إرتكين، فقد قيل إن الدولة قتلته تحت وطأة التعذيب، خاصة أن جثته لم يعثر عليها إلا بعد عدة أشهر من وفاته.
وربما يكون الصدى والشاهد على حياة صباح الدين علي أن رواية مادونا صاحبة معطف الفرو قد أصبحت الآن أكثر أعماله شهرة ونيلا للثناء. وبعيدا عن الصورة واللغة والعلاقة المتوترة وطبيعة رائف ومادونا الشرسة، تطرح الرواية عددا من القضايا، من الصدق والتوقعات الاجتماعية والمعايير، وكيف يمكن للقدر أن يعيد حياة المرء إلى التقاليد، والرقابة على صوت المرء في وجود الخوف. في نقطة في الرواية يهرب رائف من أي علامة في نفسه تدل على الصدق أو الإبداع الحقيقي. تقيده مادونا إلى الدرجة التي تتجاوز مصداقيتها. تربك لوحتها رائف، وصدقها مثل مريم العذراء يصبح أكثر سحرا، كما يظهر صدقها غير واقعي، مذكرا بتأثير جرأتها.
وبالمثل فإن وضع برلين في عشرينيات القرن الماضي يعيد إلى الأذهان الروح الحالية لأكبر المدن التركية إسطنبول وأنقرة في أوقات التساؤلات وعدم اليقين. كانت برلين، مثل إسطنبول، دائما مثيرة للعاطفة القاسية،وهذا قد يفسر بعضا من شعبية الرواية. ذكرت فيليز ابنه صباح الدين علي أن الرواية تمثل شيئا بعيد المنال لدى الشباب في تركيا. وبالمثل اعتمدت المترجمة والكاتبة مورين فريلي الرواية عودة الروح إلى حياة علي في قلوب الشباب الاتراك المحتجين، قائلة إنه منحهم الشجاعة على التمرد دون أن يفقدوا إحساسهم السريالي أو ينسوا كيف يحبون. وفي النهاية يمكن القول إن الرواية مزيج من مأساة صباح الدين علي، وقصة حياة ملهمة، ونثره الذي حاز على قلوب جيل جديد من القراء في تركيا والعالم، مثلما حازت على قلوب القراء قبل سبعين عام ونيف.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس