ترك برس

سلط مقال تحليلي للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الضوء على التناقض في سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي ادّعى أنه جاء لإنهاء الحروب لكنه في الواقع أشعل صراعات جديدة، كما يظهر في قراره شنّ هجوم على اليمن.

وناقش المقال - الذي نشره موقع الجزيرة نت - كيف تعكس خلفية ترامب في عالم المال والأعمال، خاصة في إدارة الكازينوهات، أسلوبه في السياسة، حيث يعتمد على المناورة والتفاوض المتطرف لتحقيق مكاسب.

كما استعرض الكاتب استراتيجيته تجاه غزة وسوريا واليمن، موضحًا أن تحركاته قد تكون جزءًا من لعبة سياسية أوسع، سواء لكسب تأييد الناخبين أو للضغط على خصوم مثل إيران. وفيما يلي نص المقال:

لطالما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، طوال حملته الانتخابية وبعدها، أنّه جاء لا ليُشعل الحروب بل ليُنهيها. وحين حاول البعض تفسير سياساته تجاه سوريا وغزّة في هذا السياق، جاء الإعلان مؤخرًا عن إصداره أمرًا بشنّ هجوم على اليمن.

وهذا، بطبيعة الحال، لا يُتوقَّع من رجل يزعم أنّ مهمته إنهاء الحروب، غير أنّ كون صاحب هذا القول هو ترامب، جعل الأمر غير مفاجئ، بل مؤكدًا مرة أخرى الاعتقاد السائد بأنّ كل شيء متوقَّع منه.

الرجل الذي يُتوقَّع منه كل شيء هو بطبيعته شخصٌ لا يمكن التنبؤ بأفعاله، وهذا القدر من عدم التوقّع لا يُنسب عادة إلا إلى من نستخفّ بهم. وسلوك ترامب وتصرّفاته الخارجة عن كل القوالب والتقاليد الدبلوماسية المتعارف عليها، تدفع البعض إلى وضعه في هذه الخانة.

غير أنّ ذلك يظلّ تصورًا سطحيًا بحقّ رجل ظلّ حتى اليوم يحقق الانتصارات ويجمع الأرباح، واستطاع أن يبقى في القمة كل هذه المدة. فترامب، قبل أن يكون رئيسًا، كان ملكًا في عالم المال والأعمال، ذلك العالم القاسي الذي لا يرحم، حيث التنافس لا يهدأ والصراع لا يلين.

كان "ملك العقارات"، لا شك، لكنه أيضًا رجل أعمال يملك كازينوهات في لاس فيغاس. بل وله زبائن كُثر من المشاهير، بمن فيهم بعض الكبار في الشرق الأوسط.

الكازينو دائمًا يربح

القاعدة الأهم في عالم القمار أنّ "الكازينو دائمًا يربح". فحتى أمهر اللاعبين، ينتهي بهم الأمر بأن يخدموا مصالح الكازينو ويصبحوا أدوات لربحه. ولا يمكن القول إنّ هذه الخلفية المهنية لترامب لم تنعكس على أسلوبه السياسي. فخلف تصريحاته وسلوكياته التي تبدو، للوهلة الأولى أو الثانية، انفعالية أو فظّة، تكمن لعبة مدروسة.

وربّما كان الحجر الذي يرميه في البئر ويشغل به عقول العالم بأسره، جزءًا من تلك اللعبة. وفي الأثناء، من المرجّح أنه يكون قد انخرط في لعبة أخرى تحقق له ربحًا جديدًا.

أنا شخصيًا لست ممن يعكفون على تحليل سلوك السياسيين وكأنهم أنبياء ذوو حكم خفيّة أو عباقرة خارقون، كما يعلم من يعرفني. لكنّ من الواضح أن سلوكيات ترامب المتطرّفة ليست وليدة عشوائية بلا هدف، ولو أنّ ما يدور في ذهنه قد يكون مختلفًا كثيرًا عمّا يبدو في ظاهره.

لذا، فإنّنا مدعوون لتفسير أفعال هذا الرئيس باعتباره لاعب ورق. وفي ألعاب الورق التي يُتقنها جيدًا، يحاول اللاعبون إخفاء أوراقهم على أمل أن يفوزوا، أمّا هو فيبدو كأنه يلعب بأوراق مكشوفة. غير أنّ هذا قد يعني ببساطة أنّ لديه أوراقًا أخرى ما زالت خفيّة.

ولا شك أنّ هذا النمط من التحليل السياسي يتطلب خيالًا لم يسبق أن احتاجه المحللون من قبل. وهذا هو المآل الذي بلغته السياسة على طريقة ترامب.

خلفية خطة ترامب للتهجير وما بعدها

يشير بعض المحللين، كما ذكر الدكتور سامي العريان في مقالٍ له على موقع الجزيرة نت، إلى أنّ تصريح ترامب خلال زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ربما كان يهدف إلى إحباط مساعي رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي – المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب – للحصول على "ضوء أخضر" لاستئناف حرب الإبادة التي يشنها على غزة.

اقتراحه المتعلق بتهجير سكان غزة كان فكرة متطرفة بلا شك. ولا يبدو أن هناك إجابة منطقية عن كيف يمكن لهذا المقترح أن يتحقّق، حتى مع الدعم الأميركي الكامل، بعد خمسة عشر شهرًا من الحرب الإسرائيلية الإبادية التي لم تنجح في تحقيق هذا الهدف.

وقد ثبت حتى الآن، من خلال المواقف الرافضة مختلف مكونات هذا المخطط، أنه محكوم عليه بالفشل. لكن هذا لا يعني أن ترامب أطلق هذا المقترح عبثًا. فهل كان يسعى من خلاله إلى إقناع أطراف معيّنة باستحالة تحقيقه؟

يرى العريان أن هذا السلوك يمكن اعتباره جزءًا من إستراتيجية ترامب التفاوضية التي فصّلها في كتابه الشهير فنّ الصفقة (The Art of the Deal)، حيث يقول إنّ على المفاوض الناجح أن يبدأ من أقصى حدود التشدد والتطرّف، ليجبر الطرف الآخر على تقديم تنازلات كبيرة، وربما يدفعه إلى الاقتراب من موقفه حتى قبل بدء التفاوض الفعلي.

أما في سوريا، فيبدو أن الإدارة الأميركية قد دفعت بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) للجلوس إلى طاولة التفاوض مع الحكومة السورية، بل وربما أجبرتها على ذلك، وهو ما أثار غضب الكيان الإسرائيلي على ما يبدو. وهذا يؤكّد على الأقل أن ترامب ظلّ، في هذا الجانب، ملتزمًا بسياسته المعلنة منذ البداية: "أميركا أولًا".

ماذا سيفعل ترامب في اليمن؟

والسؤال الآن: ما هو هدف ترامب من الحرب التي بدأها في اليمن؟ من المستبعد جدًا أن يكون يجهل أنّ مثل هذا الهجوم – الذي قد يقتصر على غارات جوية – لن يُفضي إلى نتيجة حاسمة.

ولا يمكن تصوّر أن إدارة خرجت لتوّها بهزيمة من أفغانستان، ستدخل مغامرة مشابهة مع علمها المسبق بعاقبتها. لذا، من المرجّح أن يكون القصد من هذه الضربات ليس القضاء على الحوثيين أو دحرهم، بل مجرّد إرسال رسالة: "نحن نحارب الحوثيين"، على سبيل الاستعراض فحسب.

لقد أدى موقف الحوثيين المتحدّي، والداعم لغزة، والمهدد لحركة الملاحة والتجارة البحرية، إلى خلق توقّع عام باتخاذ موقف صارم ضدهم. وترامب، الذي اتّهم خصمه بايدن بالتراخي، وجد نفسه مطالبًا بالاستجابة لتوقعات الناخبين الجمهوريين، خاصة الموالين لإسرائيل.

لكن الاستجابة لا تعني بالضرورة الدخول في حرب شاملة وطويلة. فالقيام بأي عملية احتلال – حتى لو محدودة – لموانئ اليمن أو سواحله، ينطوي على مخاطر جسيمة. ومع ذلك، قد تُستخدم هذه الضربات المحدودة ضد الحوثيين كورقة ضغط على إيران، لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.

فالطبيعة الجغرافية الوعرة لليمن، وجباله الشاهقة، تُعقّد أي عملية عسكرية أميركية، وتُنبئ بتكرار التجربة الأفغانية. وهذا يوضّح أنّ التحدي في اليمن كبير، حتى أمام القوة العسكرية الأميركية الهائلة. وإلى جانب ذلك، فإنّ تمسّك "التحالف العربي" بخيار الحلّ السياسي، ولو ببطء، يقيّد خيارات ترامب في نهاية المطاف.

فالسعودية ودول عربية أخرى أطلقت بالفعل مسارًا لحلّ سياسي في الأزمة اليمنية. وقد يتماشى أسلوب ترامب مع تجاوز خطط الحلفاء، لكن لا يمكنه تجاهل الكلفة التي تترتّب على اتخاذ قرارات كبرى دون التنسيق معهم.

صحيح أنّ "الكازينو دائمًا يربح"، لكن لا يمكن إبقاء اللاعبين حول الطاولة إن لم يشعروا بأنهم يربحون شيئًا هم أيضًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!