د. علي محمد محمد الصلابي - خاص ترك برس
إن التاريخ قد يخلد العظماء من رجاله لقيامهم بعمل واحد، وإذا كان محمد الفاتح قد اشتهر بفتح القسطنطينية فإن هذا الفتح قد سبقه مسيرة طويلة من الإصلاحات والإعداد الحضاري، سنتناول شيئا منها في حلقتين، وهذه هي الأولى:
اهتمامه بالمدارس والمعاهد:
كان السُّلطان محمَّد الفاتح محبَّاً للعلم، والعلماء، ولذلك اهتمَّ ببناء المدارس، والمعاهد في جميع أرجاء دولته. وقد كان السُّلطان «أورخان» أوَّل من أنشأ مدرسةً نموذجيَّةً في الدَّولة العثمانيَّة، وسار بعده سلاطين الدَّولة على نهجه، وانتشرت المدارس، والمعاهد في بروسة، وأدرنة، وغيرهما من المدن.
ولقد فاق محمَّد الفاتح أجداده في هذا المضمار، وبذل جهوداً كبيرةً في نشر العلم، وإِنشاء المدارس، والمعاهد، وأدخل بعض الإِصلاحات في التَّعليم، وأشرف على تهذيب المناهج، وتطويرها، وحرص على نشر المدارس، والمعاهد في جميع المدن الكبيرة، والصَّغيرة، وكذلك القرى، وأوقف عليها الأوقاف العظيمة.
ونظَّم هذه المدارس، ورتَّبها على درجاتٍ، ومراحل، ووضع لها المناهج، وحدَّد العلوم، والموادَّ الَّتي تدرَّس في كلِّ مرحلةٍ، ووضع لها نظام الامتحانات، فلا ينتقل طالبٌ من مرحلةٍ إِلى أخرى إِلا بعد إِتقانه لعلوم المرحلة السَّابقة ويخضع لامتحانٍ دقيقٍ، وكان السُّلطان الفاتح يتابع هذه الأمور، ويشرف عليها، وأحياناً يحضر امتحانات الطَّلبة، ويزور المدارس بين الحين والحين، ولا يأنف من استماع الدُّروس الَّتي يلقيها الأساتذة، وكان يوصي الطَّلبة بالجدِّ، والاجتهاد، ولا يبخل بالعطاء للنَّابغين من الأساتذة، والطَّلبة، وجعل التَّعليم في كلِّ مدارس الدَّولة بالمجَّانِ، وكانت الموادُّ الَّتي تدرَّس في تلك المدارس: التَّفسير، والحديث، والفقه، والأدب، والبلاغة، وعلوم اللُّغة من المعاني، والبيان، والبديع، والهندسة... إِلخ.
وأنشأ بجانب مسجده الَّذي بناه بالقسطنطينيَّة ثماني مدارس، على كلِّ جانبٍ من جوانب المسجد أربع مدارس، يتوسَّطها صحنٌ فسيحٌ، وفيها يقضي الطَّالب المرحلة الأخيرة من دراسته، وألحقت بهذه المدارس مساكن للطَّلبة، ينامون فيها، ويأكلون فيها طعامهم، ووضعت لهم منحة ماليَّة شهريَّة، وكان الموسم الدِّراسي على طول السَّنة في هذه المدارس، وأنشأ بجانبها مكتبةً خاصَّةً، وكان يشترط في الرَّجل الَّذي يتولَّى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم، والتَّقوى، متبحِّراً في أسماء الكتب، والمؤلِّفين.
وكان المشرف على المكتبة يعير الطَّلبة، والمدرِّسين ما يطلبونه من الكتب بطريقةٍ منظَّمةٍ دقيقةٍ، ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفترٍ خاصٍّ، وهذا الأمين مسؤولٌ عن الكتب التي في عهدته، ومسؤولٌ عن سلامة أوراقها، وتخضع هذه المكتبة للتَّفتيش كلَّ ثلاثة أشهر على الأقلِّ، وكانت مناهج هذه المدارس تتضمَّن نظام التَّخصُّص، فكان للعلوم النَّقليَّة، والنَّظرية قسمٌ خاصٌّ، وللعلوم التَّطبيقيَّة قسمٌ خاصٌّ أيضاً، وكان الوزراء، والعلماء من أصحاب الثَّروات يتنافسون في إِنشاء المعاهد، والمدارس، والمساجد، والأوقاف الخيريَّة.
اهتمام السُّلطان محمَّد الفاتح بالعلماء:
لقد كان للعلماء، والأدباء مكانةٌ خاصَّةٌ لدى محمَّد الفاتح، فقرَّب إِليه العلماء، ورفع قدرهم، وشجَّعهم على العمل، والإِنتاج، وبذل لهم الأموال، ووسَّع لهم في العطايا، والمنح، والهدايا؛ ليتفرَّغوا للعلم، والتَّعليم، وقد كان يكرمهم غاية الإِكرام، ولو كانوا من خصومه؛ فبعد أن ضمَّ إِمارة القرمان إِلى الدَّولة أمر بنقل العمَّال، والصُّنَّاع إِلى القسطنطينيَّة، غير أنَّ وزيره روم محمَّد باشا ظلم النَّاس ومن بينهم بعض العلماء، وأهل الفضل، ومن بينهم العالم أحمد جلبي ابن السُّلطان أمير علي، فلمَّا علم السُّلطان محمَّد الفاتح بأمره؛ اعتذر إِليه، وأعاده إِلى وطنه مع رفقائه معزَّزاً مكرَّماً.
وبعد أن هُزم «أوزون حسن» زعيم التُّركمان، وكان هذا الزَّعيم لا يلتزم بعهدٍ، ويناصر أعداء العثمانيِّين من أيِّ ملَّةٍ كانت، فبعد أن هزمه محمَّد الفاتح وقع في يده عددٌ كبير من الأسرى، فأمر السُّلطان الفاتح بقتلهم (إِلا مَنْ كان من العلماء، وأصحاب المعارف مثل القاضي محمد الشُّريحي، وكان من فضلاء الزَّمان، فأكرمه السُّلطان غاية الإِكرام).
وكان السُّلطان الفاتح يحترم العلماء، وأهل الورع، والتُّقى، وقد تستبدُّ به في بعض الأحيان نزوةٌ جامحةٌ، أو غضبةٌ طارئةٌ، ولكنه ما يلبث أن يعود إِلى وقاره، واحترامه لهم.
وكان السُّلطان محمَّد الفاتح لا يسمع عن عالم في مكانه أصابه عوزٌ، وإِملاق إِلا بادر إِلى مساعدته، وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه.
وكان من عادة الفاتح في شهر رمضان أن يأتي إِلى قصره بعد صلاة الظُّهر بجماعةٍ من العلماء المتبحِّرين في تفسير القرآن، فيقوم في كلِّ مرَّةٍ واحدٌ منهم بتفسير آياتٍ من القرآن الكريم، وتقريرها، ويناقشه في ذلك سائر العلماء، ويجادلونه، وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات، ويشجِّع هؤلاء العلماء بالعطايا، والهدايا، والمكافآت الماليَّة الجزيلة.
اهتمامه بالشُّعراء والأدباء:
ذكر مؤرِّخ الأدب العثمانيِّ: أنَّ السُّلطان محمَّد الفاتح (راعٍ لنهضةٍ أدبيَّةٍ وشاعرٌ مجيدٌ، حكم ثلاثين عاماً كانت أعوام خصبٍ، ورخاء، وبركةٍ، ونماءٍ، وعُرف بأبي الفتح؛ لأنه غلب على إمبراطوريتين، وفتح سبع ممالك، واستولى على مائتي مدينةٍ، وشاد دور العلم، ودور العبادة. فعُرف كذلك بأبي الخيرات).
وكان الفاتح مهتمَّاً بالأدب عامَّةً، والشِّعر خاصَّةً، وكان يصاحب الشُّعراء، ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم مثل: أحمد باشا محمود، ومحمود باشا، وقاسم الجزري باشا، وكان في بلاط الفاتح ثلاثون شاعراً يتناول كلٌّ منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم، وكان طبيعيَّاً بعد هذا الاهتمام أن يتفنَّن الشُّعراء، والأدباء في مدح السُّلطان محمَّد لما قدَّمه للعلم، والأدب من كريم الرِّعاية، وجميل التَّشجيع.
وكان محمَّد الفاتح ينكر على الشُّعراء التبذُّل، والمجون، والدَّعارة، ويعاقب الَّذي يخرج عن الآداب بالسِّجن، أو يُطرد من بلاطه.
اهتمامه بالتَّرجمة:
كان السُّلطان محمَّد الفاتح متقناً لِلُّغة الرُّوميَّة، ومن أجل أن يبعث نهضةً فكريَّةً في شعبه أمر بنقل كثيرٍ من الآثار المكتوبة باليونانيَّة، واللاتينية، والعربيَّة، والفارسيَّة إِلى اللُّغة التُّركيَّة، من ذلك كتاب: «مشاهير الرِّجال» لبلوتارك، ونقل إِلى التُّركيَّة كتاب: «التَّصريف في الطبِّ» لأبي القاسم الزَّهراوي الطبيب الأندلسيِّ مع زياداتٍ في صور آلات الجراحة، وأوضاع المرضى أثناء إِجراء العمليَّات الجراحيَّة.
وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا، وخريطةً له قام بمطالعته، ودراسته مع العالم الرُّومي جورج أميروتزوس، ثمَّ طلب إِليه الفاتح، وإِلى ابنه (ابن العالم الرُّومي) الَّذي كان يجيد اللُّغتين: الرُّوميَّة، والعربيَّة بترجمة الكتاب إِلى العربيَّة، وإِعادة رسم الخريطة مع التَّحقيق في أسماء البلدان، وكتابتها باللُّغتين العربيَّة، والرُّوميَّة، وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعةٍ جمَّةٍ. وكان العلاَّمة علي القوشجي ـ وهو من أكبر علماء عصره في الرِّياضيَّات، والفلك ـ كلَّما ألَّف كتاباً بالفارسيَّة؛ نقله إِلى العربيَّة، وأهداه إِلى الفاتح.
وكان الفاتح مهتمَّاً باللُّغة العربيَّة؛ لأنَّها لغة القرآن الكريم، كما أنَّها من اللغات العلميَّة المنتشرة في ذلك العهد. وليس أدلَّ على اهتمام الفاتح باللُّغة العربيَّة من أنَّه طلب إِلى «المدرسين بالمدارس الثَّمانية أن يجمعوا بين الكتب السِّتَّة في علم اللُّغة كالصِّحاح، والتَّكملة، والقاموس، وأمثالها». ودعم الفاتح حركة التَّرجمة، والتَّأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإِكثار من نشر المكتبات العامَّة، وأنشأ له في قصره خزانةً خاصَّةً، احتوت على غرائب الكتب، والعلوم، وعيَّن الشَّيخ لطفي أميناً عليها، وكان بها اثنا عشر ألف مجلدٍ عندما احترقت عام 1465م؛ وقد وصف الأستاذ «ديزمان» هذه المكتبة بأنَّها بمثابة نقطة تحوُّل في العلم بين الشَّرق، والغرب.
المراجع:
1- د. علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص. ص
2- د. سالم الرَّشيدي، محمَّد الفاتح، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ، ص.ص (384- 389)، (393- 396).
3- العثمانيُّون في التَّاريخ والحضارة، د. محمَّد حرب، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى 1409هـ/1989م، ص (247).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس