ترك برس-الأناضول
أن يتصدر صبي عمره 12 عاما للتدريس في جامع محمد الفاتح بإسطنبول، فلا أقل من أن يقال عنه إنه نابغة، إذ إن هذا المنصب المرموق لم يكن يتأتى إلا بعد التضلع من العلوم والمعارف.
ولكن ذلك لم يكن غريبا على مصطفى صبري، أبرز علماء الدولة العثمانية الذين ظهروا أواخر عهدها، ففي سن مبكرة وفي مسقط رأسه "توقاد" أو "توكات"، شمال تركيا، حفظ القرآن الكريم، وأتم الدراسة الابتدائية، ثم انتقل إلى قيصرية التي كانت مركزا للعلوم الدينية، درس فيها العلوم النقلية والعقلية.
ثم سافر إلى إسطنبول، ودرّس بجامع الفاتح، وأصبح أمينا لمكتبة السلطان عبد الحميد، والذي فطن لنبوغ الشيخ صبري وقدراته وسعة علمه، وترأس الأخير مجلة "بيان الحق"، وأصبح عضوا في دار الحكمة الإسلامية.
لن نستطرد في ترجمة شيخ الإسلام صبري، لكننا سنتناول حقبة هامة من حياته، وهي تلك الفترة التي قضاها في مصر بعد هجرته إليها، ومواصلته الدفاع عن الإسلام ضد التيار التغريبي الذي داهم الأتراك والعرب معا.
كان الشيخ صبري، قد فوجئ لدى وصوله مصر بتنفذ التغريبيين، الذين اختاروا للشعب النأي عن الفكر الإسلامي، فسلط عليهم قلمه وحجته وبيانه دفاعا عن الإسلام.
وفي هذه الفترة كان الهجوم على التاريخ العثماني قد بلغ أوجه في مصر والعالم العربي، بعد بزوغ النعرات القومية في العرب والأتراك معا، فكان يجاهد للتصدي للوقيعة بين شقي الأمة الإسلامية، واتبع منهجا قويما في التصدي للحملات التي طالت الدولة العثمانية الإسلامية.
ونذكر نبذة من هذا المنهج من خلال تعامله مع هجوم المؤرخ محمد عبد الله عنان، على التاريخ العثماني، والذي لم يعتمد في هجومه على مصادر موثوقة، ولم يتعمق في التاريخ العثماني، حيث إنه لم يكن واقعا في نطاق تخصصه، كما أنه أورد في حملته الهجومية معلومات مغلوطة، بحسب ما أفاد المؤرخ المصري محمد حرب، في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة".
ومما قاله عنان، في شأن الدولة العثمانية: "إذا كان الإسلام لم يعتز قط بتركيا يوم كانت دولة شامخة قوية، فكيف يحاول اليوم أن يعتز بهذه البقية الضئيلة من تركيا القديمة؟".
وقال أيضا: "إن مصر الإسلامية لم تعرف ـ رغم ما توالى عليها من عصور الاضطراب والفتنة ـ من الخطوب والمحن نكبة أعظم من الفتح الإسلامي، ولم تعرف حكما أقسى وأمر من حكم الدولة العثمانية".
كان لدفاع شيخ الإسلام إزاء هجوم عنان وغيره من التغريبيين على الدولة العثمانية عدة مرتكزات:
الأول: أنه لم يدافع عن الدولة العثمانية بنزعة قومية لكونه عثمانيا، بل دافع عنها باعتبارها حقبة إسلامية بارزة في السياق الحضاري للأمة الإسلامية، وانطلاقه من هذه القاعدة جعله يبرز حقيقة أن الفتح الإسلامي لمصر كان ضمًا لمصر الإسلامية إلى تركيا الإسلامية، بمعنى أنه اجتماع للأمة تحت راية واحدة وهي الراية الإسلامية.
كما أن انطلاقه من هذه الحقيقة، جعله يسرد خلال دفاعاته حقيقة تاريخية تتضمن الحفاظ على المنهج الإسلامي الصحيح، وهي حماية العثمانيين للعالم الإسلامي من خطر التشيع، الذي تمثل في رغبة الدولة الصفوية في التوسع بالمنطقة على أساس طائفي.
الثاني: استشهاده بكلام المصريين أنفسهم في تقييم الحقبة العثمانية، انطلاقا من مبدأ (وشهد شاهد من أهلها)، فمن ذلك استشهاده بكلام عبد الرحمن عزام بك، الأمين العام الأول للجامعة العربية، والملقب بـ "أبو الجامعة العربية" و"جيفارا العرب"، والذي كتب في صحيفة الأهرام المصرية مقالا قويا عن العثمانيين بعنوان "آخر الخلفاء"، جاء فيه:
"لما وصل الإسلام إلى شرق أوروبا وكلها سجون أبدية يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، كسروا (أي العثمانيون) أغلال السجون وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية، فهم الذين قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية ليحل محله نظام المواطن الحر والرعية المتساوية الحقوق، فوصل في دولتهم الرقيق الشركس والصقلبي وغيره إلى أكبر مقام في الدولة، كما وصل النابه من عامة الناس حتى المجهول الأصل إلى مقام الصدارة العظمى والقيادة العليا".
وتعلمت أوروبا الشرقية على يد محرريها سيادة القانون على الأحساب والأنساب والطوائف والملل والنحل، فترتب على ذلك تطور هائل في اتجاه الحرية والديمقراطية الغربية الحديثة، وكانت القرون الأولى لسيطرة آل عثمان عصورا ذهبية شمل فيها الناس الأمن والرخاء والسلام الروحي.
ولم تكن قوة آل عثمان كما يظن بعض الناس مستمدة من سيف وشجاعة، بل مما هو أعظم من السيف والشجاعة، احترام الحق والوفاء بالعهد والخضوع لسلطان القانون والشرع، ولو كان الأمر كما يتصوره الذين ينخدعون بآثار دور الانحطاط من استخدام الطوائف والغيرة بين العناصر والبطش لتغطية الضعف، لاستحال أن يدوم ملك آل عثمان 600 عام، منها 200 لا يسندهم فيها إلا سيف مبتور.
لقد رويت لي في رحلاتي بالبلقان وملدافيا أمثلة باقية من لغة العامة عن عدل آل عثمان، "فإذا جاء الحق ووضع الميزان فسيجد الناس آل عثمان بين بيوت الملك الذي طال أمده وتنوعت رعاياه وقد ثقلت كفته بالخير والرحمة والمروءة والشرف".
ولولا طول المقال لأوردناه كاملا، والشاهد أن شيخ الإسلام مصطفى صبري ارتكز في دفاعاته عن الدولة العثمانية الإسلامية، على شهادة رموز مصر إبان إقامته فيها، واستشهد كذلك بغيرهم من العرب أمثال أمير البيان شكيب أرسلان، والذي امتدح العثمانيين في ديوانه قائلا:
أحبكم حب من يسعى لطيتهِ *** في طاعة العقل لا في طاعة الغضبِ
أحبكم حب من يدري مواقفكم *** في خدمة الدين والإسلام من حقبِ
ومنذ تقلدتمو أمر الخلافة قد *** آويتمو بينها كل مغتربِ
الثالث: أنه استشهد كذلك بكلام المنصفين من الغرب الذين يترنم بذكرهم من اختطف عقولهم بريق الحضارة الغربية، ومنهم ت. ج. دجوفارا، الوزير الروماني صاحب المؤلف الشهير "مئة مشروع لتقسيم تركيا"، والذي قال: "إن احترام المعاهدات والعمل بموجب الكلمة المعطاة من مزايا العثمانيين، يدور عليها التاريخ كله"، وقال: "العداوة الحقيقية كانت عداوة النصارى للمسلمين برغم تسامح المسلمين في الحرية الدينية التي يتمتع بها المسيحيون في السلطنة العثمانية".
ومن الطريف، أن شيخ الإسلام صبري، قد استشهد ضد هجوم محمد عبد الله عنان، على العثمانيين، بكتاب غربي قام عنان نفسه بتعريبه، وهو "تاريخ أوروبا الحديث" لمؤلفه ريتشارد لوج، والذي تحدث فيه عن العاطفة الإسلامية لدى الأتراك وحسن إدارتهم المدنية والحربية.
رابعا: شيخ الإسلام صبري، لم يكن متطرفا في الدفاع عن الدولة العثمانية، بل كان موضوعيا يزن بميزان القسط، ولم يبالغ في مدح العثمانيين، على أساس أنها دولة لها وعليها، ولم يدّع أن التاريخ العثماني بريء من كل تهمة وُجهت إليه، ولذلك تجده يقول في أحد كتبه: "أنا لا أقول أن آل عثمان، حتى الأعاظم المشهورين منهم في تاريخ العالم، برآء من كل ما ينتقدونهم به، وإنما أردّ على من أنكر اعتزاز الإسلام بهم".
وهذا يعتبر ملمحا منهجيا هاما في الدفاع عن الدولة العثمانية، فهي ليست مبرأة من السلبيات، والتكلف في تبرئتها مما ثبت بحقها من مثالب يأتي بنتائج سلبية حتما، وإننا إذ ننافح في موقعنا هذا عن التاريخ العثماني، فإنما ندحض فحسب التهم الباطلة أو الظنية التي لا يثبت لها قدم وليس عليها دليل قطعي، اعتمادا على الأصل العام وهو استصحاب البراءة الأصلية إلى أن تثبت الإدانة، وهو أمر معروف في كل الشرائع السماوية والدساتير الأرضية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!