ترك برس
قام وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بزيارة مهمة إلى العراق بين 22 و24 أغسطس/آب. ويُعَد العراق واحداً من أكبر البلدان الاستراتيجية في الجوار الجغرافي لتركيا، من حيث الحرب على الإرهاب، وجيوسياسة الطاقة، والعلاقات الاقتصادية، والاستقرار الداخلي، والتنافس بين البلدان في المنطقة. لذا، فإنَّ زيارة فيدان بالغة الأهمية قبل زيارة الرئيس أردوغان المتوقعة للعراق. وعلى الرغم من أنَّ قيادة فيدان لملف العراق تنبع من توليه رئاسة جهاز الاستخبارات الوطنية التركي لمدة 13 عاماً، فإنَّ ميزته الرئيسية هي شبكة قنوات اتصاله الخلفية في العراق. وقد اضطلع بدور رائد في صياغة وتطبيق الاستراتيجية الأمنية والاستخباراتية التركية، وأدار عمليات مهمة جداً بشأن المسائل الأكثر حساسية مع جميع الجهات الفاعلة المهمة في العراق.
ولديه أيضاً سجل أعمال استراتيجي يعكس كل التوازنات العرقية والطائفية والبيروقراطية في العراق. ويمكن فهم القيمة الاستراتيجية لسجل أعمال فيدان في العراق، خصوصاً عند النظر إلى دور بناء الجسور، الذي اضطلع به في عملية تشكيل الحكومة الحالية بقيادة محمد السوداني. فهو لا يتمتع فقط بفهم استراتيجي لدور إيران في العراق، وخطتها التخريبية ضد تركيا من خلال الميليشيات الشيعية في شمال العراق، والديناميات الداخلية في صفوف السنّة وفي صفوف الأكراد، ومسألة حزب العمال الكردستاني (بي كا كا)، بل يتمتَّع أيضاً بالقدرة على إدارة العمليات التكتيكية والعملياتية على الأرض. بالتالي، فإنَّ فيدان ليس وزير خارجية عادياً عند النظر إليه في سياق العراق.
الديناميات الداخلية للعراق
مع ذلك، لا تزال المسائل الصعبة بين البلدين بعيدة عن الحل، وحتى لو زار الرئيس أردوغان البلاد، فسيستغرق حل هذه المشكلات بعض الوقت. ومع أنَّ هناك العديد من العوامل التي تؤثر على هذا الوضع، فإنَّ الديناميات داخل العراق عامل حاسم للغاية. ويُعَد التكوين الهش لحكومة السوداني، وضعف الاقتصاد، ووجود خلافات بين بغداد وأربيل، ووجود منظمة بي كا كا الإرهابية ونشاطها في شمال العراق، والنفوذ التخريبي لأطراف فاعلة أجنبية، مثل إيران، من بين العوامل العديدة التي تؤثر بشكل كبير على العلاقات بين تركيا والعراق. لكن من المعروف أنَّ المشكلات البيئية المرتبطة بالتغيُّر المناخي كان لها أثر تدميري متنامٍ على العراق، إذ الأمم المتحدة تنظر إلى العراق باعتباره واحداً من أكثر البلدان المعرضة للخطر في ما يتعلَّق بالتغيُّر المناخي. وفي هذا الإطار، تُعَد مسألة المياه واحدة من أهم المشكلات التي تنتظر الحل بين تركيا والعراق.
وعلى الرغم من أنَّ قضايا الأمن والطاقة احتلت مكان الصدارة على ما يبدو خلال زيارة فيدان، فإنَّ واحدة من أكبر المشكلات الاستراتيجية بالنسبة لتركيا، والتي كانت أيضاً واحدةً من أولويات فيدان، هي الحفاظ على التوافق الذي جرى التوصل إليه في ما بين السنّة. ويمكن أن يُشكِّل أي صراع سياسي بين السنّة تهديداً استراتيجياً لأولويات تركيا في العراق. ولا يعني هذا أنَّ تركيا تتعامل مع العراق من منظور طائفي. بل على العكس، إذ يُنظَر إلى الوفاق بين السنّة على أنَّه أداة استراتيجية لأنَّ له القدرة للتأثير على كل العمليات العسكرية والسياسية الأخرى في العراق. ونظراً للانتخابات المحلية المقبلة في العراق (في ديسمبر/كانون الأول 2023)، أصبحت الأولويات التركية أكثر أهمية.
ويمكن فهم هذه الأولويات بسهولة أكبر حين ننظر إلى جدول اجتماعات فيدان في العراق. فقبل لقائه مع تركمان العراق، التقى فيدان نظيره العراقي فؤاد حسين، ورئيس الوزراء العراقي محمد شيَّاع السوداني، والرئيس عبداللطيف رشيد، وكذلك زعيم تحالف الفتح هادي العامري، وزعيم تحالف السيادة خميس الخنجر.
بواعث اهتمام أمنية
لا تقتصر أولويات تركيا الاستراتيجية على الحفاظ على التوازن السياسي العرقي – الطائفي في العراق. وتتمثَّل بواعث الاهتمام الاستراتيجية الرئيسية وراء زيارة فيدان للعراق في الاستقرار الداخلي الكردي في شمال العراق، خصوصاً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، واحتواء وإضعاف أنشطة حزب بي كا كا المتنامية في العراق، وكبح النفوذ الإيراني على الميليشيات الشيعية، إذ يتعاون حزب بي كا كا مع فصائل من الميليشيات الشيعية ضد تركيا، فضلاً عن تعزيز التعاون الاقتصادي بين العراق وتركيا.
يتمثَّل التطور الأبرز في هذه العملية في القتال ضد حزب بي كا كا. فقد نجحت تركيا، بفضل التعديلات في استراتيجيتها لمحاربة حزب بي كا كا على مدى فترة طويلة، في تحييد الحزب بالداخل، وإضعافه في العراق، واحتوائه في سوريا. وقد أدَّى الوجود العسكري المتزايد لتركيا في الجيوب الاستراتيجية في شمال العراق، وسيطرتها على المناطق الاستراتيجية، والتعاون الوثيق بين أنقرة وأربيل، إلى إضعاف حزب بي كا كا في العراق، لكنَّها لم تُحيِّده. في المقابل، أعاد حزب بي كا كا تموضعه في منطقة سنجار من خلال "وحدات مقاومة سنجار" (الفرع التابع لحزب بي كا كا) تحت ذريعة محاربة داعش، وحوَّل منطقة مخمور إلى معسكر تجنيد وتدريب لحزب بي كا كا، وبدأ السيطرة على أحياء في مدينة السليمانية، وأقام شراكة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، واتبع ما تُسمَّى سياسة توازن ضد تركيا من خلال الشراكة مع الميليشيات الشيعية.
والأهم من ذلك أنَّه سعى لإضفاء الشرعية على وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا عبر شمال العراق، وتعزيز العمق العسكري والسياسي لحزب بي كا كا من خلال دمجه في الحياة السياسية العراقية.
وتتلخَّص استراتيجية تركيا الجديدة في التصدي للنهج التكتيكي والاستراتيجي المتغيِّر لحزب بي كا كا، وتحييد الحزب في العراق، وضمان انسحابه إلى جبال قنديل. ولهذا السبب، تريد تركيا من الحكومة العراقية تصنيف حزب بي كا كا باعتباره منظمة إرهابية، وترى أنقرة في الوجود المتنامي للحزب خطراً على وحدة العراق الإقليمية وسيادته على حدّ تعبير فيدان خلال الزيارة. وفي حال تحقق هذا الهدف، سيصبح العراق قوة ذات سيادة على أراضيه، وسيتقلَّص الوجود العسكري التركي في شمال البلاد إلى الحد الأدنى. ومن ناحية أخرى، سيؤدي تصنيف الحزب باعتباره منظمة إرهابية إلى تحرير الحياة السياسية في شمال العراق من نفوذه وتهدئة الصراع المتصاعد بين الأكراد. ومع أنَّ تحقيق هذا الوضع في معادلة شمال العراق يبدو أمراً صعباً في الوقت الراهن، إلا إنَّ الأدوات التي تملكها تركيا تجعل العمل معها ضرورة استراتيجية بالنسبة للجهات الفاعلة في المنطقة. وتثبت اجتماعات فيدان في أربيل هذا. إذ يؤدي استمرار التعاون بين تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جعل حزب العمال أكثر عدوانية ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، في حين أنَّ استئناف الرحلات الجوية من السليمانية إلى تركيا مستبعَد إذا ما استمر الاتحاد الوطني الكردستاني في التعاون مع حزب بي كا كا.
الأولويات الاقتصادية
تصبح المعركة ضد حزب بي كا كا أكثر أهمية عند النظر إلى العلاقات الاقتصادية والتعاون في مجال الطاقة بين تركيا والعراق. إذ تهدف تركيا إلى زيادة حجم التجارة البالغ 25 مليار دولار حالياً مع العراق وإقامة رابط نقل استراتيجي بين تركيا والعراق عبر "مشروع طريق التنمية". يتضمَّن المشروع إقامة نحو 12 ألف كيلومتر من شبكة السكك الحديدية ذات المسار المزدوج وطريق سريع جديد يهدف لاستيعاب حركة البضائع القادمة من ميناء الفاو في البصرة. ويتمثَّل الهدف الأساسي للمشروع في تعزيز التعاون الاقتصادي بين العراق وتركيا وأوروبا. ينسجم هذا مع نهج السياسة الخارجية المُوجَّه لصالح الاقتصاد وجعل العراق أولوية استراتيجية لأنقرة. لكنَّ المشروع يواجه تحديات بسبب أنشطة حزب العمال الكردستاني والمجموعات العسكرية في المنطقة. وكما أشار وزير الخارجية فيدان خلال زيارته، فإنَّ حزب العمال لا يُشكِّل فقط تحدياً للوحدة الإقليمية والسياسية للعراق، بل يُقوِّض أيضاً الاستقرار الاقتصادي في المنطقة.
ومن القضايا الاقتصادية الأخرى بالغة الأهمية للبلدين ملف الطاقة. وقد توقف تدفق النفط من العراق إلى تركيا منذ فبراير/شباط 2023، وتدَّعي تركيا أنَّ زلزال فبراير/شباط هو السبب. ومع أنَّ هذا المبرر يبدو معقولاً، فلن يكون من الخطأ القول إنَّ الخلاف الحالي بين حكومة بغداد وإدارة أربيل، وحقيقة مقاضاة العراق لتركيا في محكمة التحكيم الدولية والحكم على تركيا بتقديم تعويض، يُشكِّل مشكلة بالنسبة لتركيا. ويمكن فهم أهمية النفط بصورة أكبر عند أخذ قضية حكومة بغداد التي ما تزال قائمة ضد تركيا في الاعتبار. وفي حين كلَّف إغلاق خط أنابيب النفط منذ فبراير/شباط الماضي العراق مليارات الدولارات، فإنَّ الفشل في حل المشكلة مع تركيا قد يكون له عواقب وخيمة.
إذا ما أفضت مفاوضات فيدان إلى نتائج إيجابية، فسيُوضَع أساساً قوياً لزيارة الرئيس أردوغان، مما قد يُمهِّد الطريق أمام تعاون استراتيجي في العلاقات بين تركيا والعراق. إنَّ نفوذ تركيا الإقليمي بصدد استعادة زخمه، والعراق يضطلع بدور استراتيجي في تعزيز هذا النفوذ.
**مقال تحليلي للكاتب التركي مراد يشيل تاش، نشره موقع عربي بوست الإخباري
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!