ترك برس

سلط مقال على موقع "ميدان"، الضوء على تداعيات سجن رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أغلو، على خلفية قضايا فساد وإرهاب، بالنسبة لمستقبل تركيا سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية والقضائية.

وقال كاتب المقال، ياسر عبد العزيز، إنه بعد اعتقال إمام أغلو، على خلفية خمس قضايا، حكم فيها بالسجن عليه، كانت العقوبة "التبعية" الصادرة بحقه هي الحظر من ممارسة السياسية لمدة خمس سنوات، وهي عقوبة تنزلها المحكمة على المتهمين في القضايا المخلة بالشرف؛ فالقضايا المتهم فيها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى في تركيا تتعلق بالاختلاس والرشوة وإهانة القضاء، والتواصل مع منظمة إرهابية، وتزوير شهادة الجامعة، وهي أحد الشروط للترشح للمناصب النيابية والتنفيذية في تركيا.

 

وفيما يلي تتمة المقال:

العجيب أن الإعلام سلط الضوء على القضية الأخيرة، متعاميًا عن التهم الخطيرة التي تمس الاقتصاد التركي ونزاهة التعاملات الحكومية في أهم بلدية في البلاد، وكما تعامى عن جريمة تمس الأمن القومي للبلاد بالتواصل مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، وهي منظمة إرهابية في تركيا وأميركا وأوروبا، ليركزوا الضوء على قضية تزوير الشهادة، ويبنوا على ذلك تحليلات تخص السياسة وحظوظ الرجل في الترشح للانتخابات الرئاسية.

ونحن هنا لسنا جهة تحقيق ولا منصة للقضاء لنحكم على الرجل بالإدانة أو البراءة، ولكنا نقف على زوايا تناول الموضوعات وكيفية توجيه الرأي العام من قبل الإعلام وبتوجيه سياسي.

استثمر حزب الشعب الجمهوري في أكرم إمام أوغلو بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية، وراهن عليه رئيس الحزب السابق، كليجدار أوغلو، حتى إن الرجل خصص له من الحزب ورجال الأعمال وماله الخاص مخصصات كبيرة للفوز برئاسة بلدية إسطنبول، لوقف احتكار حزب العدالة والتنمية للمنصب، ومن ثم إعادة الأمل للحزب وأنصاره في أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية ستكون الأفضل، وحشد له في ذلك كل الجهود وعقد تحالفات تصب في صالح الحزب على المستوى الإستراتيجي، في صالح إمام أوغلو في معركته من أجل اقتناص منصب رئيس البلدية.

واستطاع إمام أوغلو الشاب أن يحصد أرصدة لا يستهان بها من أنصار الحزب وأوساط الشباب، وشرائح الفئة المترددة وغير المؤدلجة، ولعب الحزب في دعايته على التغيير وإعطاء الشباب فرصته، وصور إمام أوغلو على أنه الأمل في ذلك.

لقد كان لاعتقال إمام أوغلو تأثيره الكبير على أنصاره والراغبين في التغيير، واستثمر الحزب في الحدث سياسيًا، على الرغم من أن التهم الموجهة لرئيس بلدية إسطنبول كلها جنائية، تمثلت في الرشاوى وتسهيل التربح لشركة خاصة، تربح هو أيضًا من تربحها، من خلال تحويل أموال بعشرات ملايين الليرات، ولقد كان لتوقيت القبض على إمام أوغلو، قبل الانتخابات الداخلية في الحزب، تأثير في توظيف الحدث سياسيًا، وهو ما يحسب أيضًا على منافسي أكرم إمام أوغلو، في مقابل إلقاء اللوم على الحزب الحاكم ورئيسه؛ فرواية أن التهم ملفقة بغرض التخلص من إمام أوغلو تنسحب بالأحرى على كل من منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، وأزغور أوزيل، رئيس الحزب، اللذين يرى كل منهما في نفسه الأحقية في الترشح لرئاسة تركيا.

كما أن اتهام الحزب الحاكم بتلفيق التهم لإمام أوغلو هو بحد ذاته جريمة بحق القضاء، الذي تسيطر عليه تيارات هي في الواقع أبعد ما تكون عن الأيديولوجيا الحاكمة في تركيا الآن، وهي اتهامات تطلقها المعارضة منذ سنوات، وترى أن الحكومة تستخدم القضاء في الإطاحة بالمعارضين، وهي اتهامات يمكن أن تنطلي على العوام، لكن النظام القضائي المؤسس على التقاضي على درجتين يجعل من المستحيل أن تستخدم السلطة التنفيذية للقضاء، كما أن علاقة القضاة بالرئيس ليست على ما يرام، ولعل اجتماعه بهم بمناسبة افتتاح العام القضائي قبل أعوام في القصر الرئاسي، في حين كان من المفترض أن يذهب هو لهم، أثار إشكالية كبيرة بين الرئاسة والقضاة والمحامين، ما جعل 32 نقابة قانونية تمتنع عن حضور الاجتماع.

أزمة أكرم إمام أوغلو لها أبعاد كثيرة، منها ما هو داخلي، وتتصل بداخل الحزب في منافسة قياداته على الترشح للرئاسة، وهو ما يؤكده أن من أبلغ عن انتهاكات أكرم إمام أوغلو من داخل الحزب. ومن الأبعاد ما يتصل بداخل تركيا، ويتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية، ورغبة الحزب الحاكم في إزاحة إمام أوغلو، وهو ما يريد الغالبية تصديقه.

وهذا مردود عليه بأن الرئيس لا يحق له الترشح بموجب الدستور إلا لو تم تعديله، لكن عدم تجهيز خليفة للرئيس يجعل باب التكهنات مفتوحًا، سواء لتهيئة المناخ لمرشح لا يستطيع مقارعة إمام أوغلو، أو لفرض حالة الطوارئ وتمديد فترة الرئيس الحالي، وهو سيناريو يتداوله رجل الشارع في تركيا.

كما أن من الأبعاد ما يتعلق بصراع النفوذ الاقتصادي في البلاد، بين جمعية رجال الأعمال (توصياد) وبين الحكومة التي تريد أن تفرض سيادة الدولة على اقتصاد بلادها، وهو ما نتج عنه انهيار الليرة التركية خلال ساعات من الإعلان عن القبض على رئيس بلدية إسطنبول.

أزمة إمام أوغلو لها أيضًا أبعاد خارجية على المستويين الإقليمي والدولي؛ فمسارعة ألمانيا بالتنديد باعتقال إمام أوغلو، ثم مناقشة الموضوع في الاتحاد الأوروبي، وحتى طرح سؤال للمتحدثة في البيت الأبيض عن القضية، ذلك يضع علامة استفهام كبيرة بشأن إمام أوغلو وعلاقاته المستمرة بالسفارات الغربية، تتمحور في الرغبة الغربية في تحجيم الدور التركي دوليًا وإقليميًا -أو هكذا ترى الموالاة- من خلال الإطاحة بحزب العدالة والتنمية، وإنهاء مشروعه الحضاري النهضوي، ومحاولاته استعادة زعامة المنطقة.

هذه الرغبة تجد مقاومة شرسة من دول ترى في نفسها الأحقية، حتى ولو لم تمتلك المؤهلات، أو مدفوعة بالسعار التوسعي، كإيران والكيان المحتل، وكل هؤلاء لا يستبعد أن يتعاونوا من أجل إخراج مشهد تنهزم فيه دولة القانون بتصوير الأمر على أنه لعبة سياسية.

لطالما طالب العلمانيون بفصل الدين عن السياسة، ويبررون ذلك بأنه ضمانة لحيادية الدولة، ومنع استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما يصب في تعزيز الديمقراطية والمواطنة.

ومن هذا المنطلق، فنحن نطالبهم بفصل السياسي عن القانوني، وعدم استغلال القانون لتحقيق مكاسب سياسية، لضمان حياد الدولة ومؤسساتها، وضمان الحفاظ على وعي المواطن وعدم استدراجه لمنزلقات، تخلط فيها المفاهيم، وتهدم فيها المبادئ، وتتسلق الرغبات والأطماع على أكتاف الثوابت من أجل عرض زائل، فهم في ذلك يضرون أكثر مما ينفعون، ويخسرون أكثر مما سيجنون؛ فإنفاذ القانون وبناء دولته أهم وأبقى من مكاسب لو تحققت لن ترسخ أسس دولة بل ستهدمها، وهو ما يتمناه أعداء تركيا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!