محمود عثمان - خاص ترك برس
في منتصف التسعينات استضافني صديقي صابر في بيته بالمدينة المنورة. حدثني يومها بأنه ينوي القدوم إلى استانبول، لتأسيس عمل تجاري فيها. حدثته عن صعوبة البيع في السوق الداخلية التركية، الناجم عن نظام الدفع بالشيكات التي لا تتمتع بقوانين صارمة تجبر كاتبها على سدادها في موعدها المحدد، وشرحت له استحالة البيع النقدي الكاش في هذه الأيام، حتى إن فترة البيع الآجل لبعض البضائع تصل إلى ستة أشهر أو يزيد.
استمع إلي محدثي حتى النهاية، ثم قال لي بكل ثقة: "أنا لن أبيع بالآجل، بل سوف أبيع بالدفع النقدي الكاش".
قلت له متعجبا: "وكيف لك ذاك؟!".
قال: "بكل بساطة... المنطق السائد عند التجار، هو الشراء بأقل / أرخص سعر، والبيع بأعلى/ أغلى سعر.. أنا سوف أكسر هذه القاعدة. لدي الخبرة والمقدرة على الشراء بأسعار منافسة جدا .. سأقوم بالشراء بسعر منافس، والبيع بأقل من أسعار السوق بفارق كبير، لكن بشرط الدفع نقدي كاش".
لم تمض سوى أشهر قليلة حتى جاء صديقي صابر لاستانبول، واستأجر في اليوم التالي مكتبا بسعر باهظ !. لكنه باشر عمله في اليوم التالي لوصوله، فأسس عمله خلال فترة قصيرة جدا، ودخل السوق بقوة أذهلت أهل المصلحة /الكار، وأدهشتهم بل أرعبتهم. إذ بفترة ليست بالطويلة تحولت النقود الكاش لجيب صديقي، والشيكات والسندات لبقية الشركات، فخلصوا نجيا، قال قائل منهم نؤذيه، وقال آخر نهدده، وقال ثالث نحاصره بقوة القانون فهو أجنبي، أما أعقلهم فأشار عليهم بفكرة استحسنوها جميعا. وهي فرض قيود جمركية على البلد التي يستورد منها صابر، وهذا ما حدث بالفعل.
صديقي صابر لم يصبر طويلا، بل غير وجهته إلى نشاط آخر، طبعا بعد أن قشط زبدة المصلحة لفترة ليست بالقصيرة.
هذه القصة ليست من وحي الخيال، بل حقيقية بشخوصها وأسمائهم أيضا. يبقى المهم في الموضوع هو المغزى التجاري والفائدة والعبرة.
ما أريد قوله أن التاجر/ رجل الأعمال الناجح هو الذي يأتي بفكرة ناجحة ويطبقها بطريقة ناجحة فيكون حليفه النجاح.
تتملكني الحيرة وأنا أسمع تجارا كبارا، يملكون شركات ذات اسم وسمعة وصيت، ثم يبحثون عن فرص (لقط)، نامت عيون الناس عنها، ولم يدر بها أحد سوى العبقري (!) الذي سيدلهم عليها. أو اولئك الذي ينتظرون مضطرا للبيع فيساومونه بقدر حاجته واضطراره.
في تراثنا الاسلامي، نهى رسول الله –ص- عن تلقي الركبان، والبيع والشراء خارج سوق المدينة، سبب ذلك أن بعض التجار كانوا يخرجون ويتلقون الركبان الذي أتوا ببضائعهم إلى سوق المدينة لبيعها، فيلاقونهم خارج السوق، ويشترون منهم بضائعهم بأقل من ثمنها الحقيقي، مما يشكل غبنا لهؤلاء الباعة.
وفي المثل التركي الشهير: "Ağlayanın malı gülene yaramaz" معناه "بضاعة من يبكي لا تنفع من يضحك".
بعيدا عن النواحي القيمية والأخلاقية، فإنني لم أر في حياتي التجارية، تاجرا اشترى مالا من مضطر، وبورك له فيه.
بل أكثر من ذلك، فقد أصبحت مقولات، "مضطر للبيع" و"مستعجل على البيع" و"فرصة لا تعوض" و"لقطة" وغيرها، تعابير مستهلكة إلى درجة الابتذال، ولم يعد يقع في شراكها إلا من أعماه الطمع، ودفعه الحرص على الربح السريع.
وفي المثل الشعبي: "الطماع والنصاب يمشيان جنبا إلى جنب" أو "Tamahkar ile sahtekar yanyana olurlar".
تاجر كبير اتصل بي يريد فرصة استثمارية عقارية في استانبول. قلت له في حدود علمي كل شيء في استانبول (مسعر) له سعره، القرب من مركز البلد، القرب من المواصلات، من محطة القطار، وغيرها كلها لها قيمتها السوقية، وتنعكس على الأسعار.
بناء على طلبه وإصراره، اصطحبته مع جاري المقاول لزيارة مقاول كبير، فأخذنا الرجل وطاف بنا عدة أماكن في منطقة بهجلي إيفلار Bahçelievler الراقية. رأينا أماكن رخيصة جدا. على سبيل المثال، أحد الأراضي كان ثمنها الأصلي 90 مليون دولار، وهي معروضة بعشرة ملايين، لأن ملاكها 33 وريث يعيش غالبهم في أوربا.
نصيحتي للتجار وخصوصا الشباب منهم، هذا الجيل الرائع، الجيل الواعد، ألا يلتفتوا لهذه العقليات القديمة السقيمة. بل يؤسسوا أعمالهم ومشاريعهم على أسس علمية سليمة، بإعداد دراسة جدوى، قانونية واقتصادية، قبل البدء بأي مشروع إلى غير ذلك من ألمور التي يجيدونها أكثر مني.
ينتابني شعور غامر بالسعادة وأنا أرى الكفاءات الشابة التي أخذت تشق طريقها، بنجاح باهر مبهر والحمد لله، في عالم المال والأعمال، على أسس علمية عقلانية مدروسة.
صدق القائل: لكل عهد دولة ورجال..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس