ترك برس
تصدرت إفريقيا اهتمام صُناع السياسة الخارجية التركية خلال العَقْدين الماضيين، وتمكنت تركيا عَبْر سياسات متوازنة، من تنمية نفوذها وتعزيزه في الفضاء الإفريقي.
وباتت إفريقيا بما تتوفر عليه من ثروات وموارد، مَحَطّ أنظار القوى الدولية واهتمامها ومطامعها كبيرها وصغيرها، وفي ظل الأزمات العالمية المتلاحقة، وحالة اللايقين التي يمر بها النظام الدولي، اشتدّ التنافُس الدولي على ولوج الفضاء الإفريقي.
ولعقود طويلة عانى الأفارقة، من الهيمنة والسيطرة الاستعمارية الغربية على ثروات بلدانهم ومواردها، كما عانوا كثيراً من الصراعات المفتعلة الدائرة في مجتمعاتهم، فيما كشفت تطوُّرات الأحداث على الساحة الإفريقية في العقد الأخير عن تنامي الوعي لدى النخب والجماهير الإفريقية، وعن رغبة الجميع في الفكاك من هذه التبعية، والتحوُّل عن الغرب بحثاً عن شراكات عادلة وشركاء منصفين.
في تقرير موسع نشره مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجية، قال الخبير المتخصص في الشؤون الإفريقية د. سعيد ندا، إن تركيا ارتكزت في بناء نفوذها الإفريقي على عدة ركائز، أهمها: بناء شبكة واسعة قوية من العلاقات الدبلوماسية والسياسية، وتقديم بديل اقتصادي عادل بعيداً عن الاستغلال والهيمنة، واقتران ذلك الحضور الاقتصادي التنموي، باهتمام بالبُعد الثقافي والاجتماعي والإنساني، والتدرج الحذِر نحو البُعد الدفاعي والأمني.
وبحسب الكاتب، أثار تنامي هذا الصعود التركي في إفريقيا، حفيظة المنافسين من المستعمرين الأوروبيين أصحاب ما يعرف بمناطق النفوذ التقليدية، والولايات المتحدة، والقوى العائدة مثل روسيا، والصاعدة مثل الصين، والطامحة مثل إسرائيل والإمارات ومصر والسعودية، ودخل الجميع على خطّ المواجهة مع تركيا.
وتزيد البيئة الإفريقية المضطربة والمشتعلة بالصراعات، من قسوة هذا التحدي واشتداده، وبخاصة في ظل تباطُؤ الاقتصاد العالمي، الذي لا شك أصاب تركيا بشيءٍ من ضيق ذات اليد، في مواجهة الكُلفة المرتفعة لاستمرار النفوذ التركي في الساحة الإفريقية.
على الرغم من أن المؤشرات الأولية، تنبئ بأن النفوذ التركي في إفريقيا، سوف يتباطأ نسبياً في المدى القريب، إلا أن الفرص لا تزال سانحة أمام تركيا لتعزيز نفوذها في إفريقيا وتنميته، يقول الكاتب.
وفيما يلي النص الكامل للتقرير:
مقدمة
مُذْ تولي حزب العدالة والتنمية سُدّة الحكم في تركيا، مطلع الألفية الثالثة عام 2002، أصبحت إفريقيا إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية التركية، وعَبْرَ سياسةٍ خارجيةٍ جديدة، استطاعت تركيا أن تحقق نفوذاً في الفضاء الإفريقي لا تخطئه عين، ولا تخلو منه إحصاءات، ولا نبالغ إذا اعتبرنا الانفتاح على إفريقيا، من أهم أسباب التغيير الذي قاده الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وحزبه.
وقد تنامى النفوذ التركي أفقياً ورأسياً، حيث تواجدت تركيا وبكثافاتٍ متفاوتةٍ في جُلّ أقاليم القارة، مع التركيز على الأقاليم الأكثر تحقيقاً للأهداف والمصالح التركية، وتنوعت شراكاتها مع الأفارقة بما يتلاءَم مع احتياجاتهم وأولوياتهم، ويوفر لهم بديلاً أفضل، مقارنة بالعلاقات التي دخلوا فيها من قبل مع الغرب والشرق.
غير أن دخول الساحة الإفريقية، لا يخلو من مخاطر وتحدِّيَات، تفرضها القُدُرات التركية، والبيئة الدولية، والبيئة الإفريقية الداخلية، فعلى مستوى النظام الدولي باتت إفريقيا محطّ أنظار الجميع، وباتت مواردها مطمعاً لكل القوى الدولية الكبرى، والإقليمية الناشئة، بل والصغرى الطامحة، وعلى المستوى الداخلي تفاقمت ظواهر سلبية كثيرة في البيئة الإفريقية، مثل الصراعات المسلحة، والجريمة المنظمة، وعدم الاستقرار السياسي، وتفشت ظواهر جديدة نسبياً أبرزها الإرهاب، والتغيرات المناخية.
وعلى الرغم من هذه التحدِّيَات الضخام، لا تزال البيئة الإفريقية مَلْأَى بالفرص، الكفيلة بتحقيق طموحات الأفارقة وشركائهم في آنٍ واحدٍ، متى تم توظيفها في الاتجاه الصحيح، بعيداً عن الأطماع والعلاقات غير المتكافئة، وبخاصة أن الديناميات السياسية في العَقْدَين الأخيرين، كشفت عن زيادة مطَّرِدة في وعي النُّخَب الإفريقية الشابة، حول قضية التبعية والهيمنة واستنزاف الموارد، وعن رغبة هذه النخب الجديدة، في التخلص من رِبْقة الاستعمار، وفي تنويع شراكاتهم والانفتاح على الآخر.
ويدعو هذا التطوُّر اللافت في العلاقات "التركية-الإفريقية"، إلى استشراف مستقبل النفوذ التركي المتنامي في إفريقيا، الأمر الذي يستوجب ابتداءً الوقوف على أهم ركائز هذا النفوذ، والتعرف على أهم التحدِّيَات التي تواجهه، وأهم الفرص التي تساعد على تنميته وتطويره.
أولاً: ركائز النفوذ التركي في إفريقيا
تحتفظ تركيا بإرث طويل من العلاقات الإيجابية مع شمال إفريقيا، لا سيما أن هذا الإقليم ظل رَدَحاً من الزمن جزءاً من تركيا العثمانية، ومع تشكُّل الجمهورية التركية عام 1923 تقلصت هذه العلاقات، وظلت عند الحدّ الأدنى حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، ومن حينها استطاعت حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة، إحداث طفرةٍ هائلةٍ في سياساتها تجاه إفريقيا، ما مكنها في هذه الفترة الوجيزة نسبياً، من بناء شبكة واسعة قوية من العلاقات التعاونية، القائمة على التكافؤ وتبادُل المنفعة، وبهذا استطاعت تنمية نفوذها في الفضاء الإفريقي، ومن أهم الركائز التي يقوم عليها هذا النفوذ:
1- التوسُّع في إقامة العلاقات الدبلوماسية
انتهجت حكومات حزب العدالة والتنمية، سياسة الانفتاح الدبلوماسي مع الدول الإفريقية على نطاق واسع، فبعد أن كانت علاقات تركيا الدبلوماسية الرسمية في إفريقيا، تقتصر على (7) دول عام 2002، وصلت الآن مطلع عام 2024، إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع (49) دولة، من أصل (54) دولة إفريقية معترَف بها أممياً، منها (45) دولة على مستوى السفارات، و(4) دول على مستوى القنصليات، بينما لم تُقِم بعدُ علاقات دبلوماسية رسمية، مع (5) دول إفريقية فقط، هي: جزر القمر، وملاوي، والرأس الأخضر، وساوتومي وبرينسيب، وليبيريا، وهي بصدد مدّ جسور التعاون مع هذه الدول.
ولم يقتصر التمثيل الدبلوماسي على الدول الإفريقية فحَسْبُ، بل امتدّ ليشمل غالبية الأُطُر المؤسسية الإفريقية، وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقي، حيث حصلت تركيا على صفة مراقب فيه عام 2005، وخلال قمته العاشرة المنعقدة في "أديس أبابا" عام 2008، أعلن الاتحاد الإفريقي تركيا "شريكاً إستراتيجياً" له، كما افتتحت أنقرة سفارةً لها لدى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، وانضمت إلى منتدى الشركاء الدولي التابع للهيئة الحكومية الدولية للتنمية في شرق إفريقيا "إيجاد"، واعتمدت سفارةً لها أيضاً لدى مجموعة دول إفريقيا الشرقية "إياك"، وانضمت إلى بنك التنمية الإفريقي، وصندوق التنمية الإفريقي.
2- تعزيز العلاقات السياسية وتعميقها
لا يمكن للانفتاح الدبلوماسي أن يُؤتِيَ ثماره، بغير تعميق العلاقات السياسية، وهو ما فطنت إليه القيادة السياسية التركية، فنسجت علاقات سياسية عميقة ومباشرة، مع قادة الدول الإفريقية، سواء عن طريق الزيارات الرئاسية الرسمية المتبادلة، أو لقاءات القمة الجماعية والفردية ضمن الفعاليات المشتركة، وليس أدل على ذلك من أنه، ومن أصل (54) دولة إفريقية، زار الرئيس الأسبق "أحمد نجدت سيزر" (3) دول، والرئيس السابق "عبد الله جول" (10) دول، والرئيس الحالي "أردوغان" (30) دولة، بينما لا تتوقف أنقرة عن استقبال القادة الأفارقة.
وتُعَدّ القمة "التركية-الإفريقية"، المحفل الأكبر الذي يجمع القيادة التركية بقيادات إفريقيا، لتنسيق جهود وبرامج التعاون والشراكة البينية، وكانت البداية مع نسختها الأولى في إسطنبول عام 2008، بمشاركة (49) دولة إفريقية، وممثلي (11) منظمة إقليمية ودولية، في مقدمتها الاتحاد الإفريقي، ثم استضافت "مالابو" عاصمة غينيا الاستوائية نسختها الثانية عام 2014، بينما أعادت إسطنبول استضافة نسختها الثالثة عام 2021.
3- تنوُّع مجالات التعاون العسكري والأمني
جذبت الخبرة التي يتمتع بها الجيش التركي، ثاني أكبر جيوش حلف الناتو بعد الولايات المتحدة، والتطور الكبير الذي شهدته الصناعات العسكرية التركية، والنجاحات التي حققتها الأسلحة والمعدات التركية، أنظار الكثير من الدول الإفريقية، الطامحة إلى تنويع مصادرها العسكرية، والباحثة عن بدائل موثوقة للأسلحة والمعدات الغربية، التي باتت تمثل عبئاً ثقيلاً على ميزانياتها، بسبب ارتفاع تكلفتها المادية، واقترانها بسياسات أخرى مجحفة، لا طائل منها سوى مزيد من التبعية والهيمنة.
ومن هنا بات التعاون العسكري والأمني، من أهم ركائز النفوذ التركي في إفريقيا، فقد أبرمت تركيا العديد من اتفاقيات الدفاع والأمن، ومكافحة الإرهاب، مع أكثر من (25) دولة إفريقية، وعقدت الكثير من برامج تطوير وتدريب قوات الشرطة مع العديد من الدول، فضلاً عن قيامها بتسليح الكثير من الجيوش الإفريقية، وبخاصة بالطائرات من دون طيار "المسيرات" التركية بأجيالها المختلفة، ومما زاد من رواج هذه المسيرات التركية في السوق الإفريقية، أنها قليلة التكلفة، ولا يتطلب استخدامها وجود بنية تحتية معقدة، وقد دخلت هذه المسيرات الخدمة بالفعل في العديد من الجيوش الإفريقية، كما في مالي والمغرب ونيجيريا وإثيوبيا وتوجو والنيجر وتونس والجزائر وغيرها.
ولم يَقِف الطموح العسكري التركي تجاه إفريقيا، عند حد التسليح والتدريب، بل تخطى ذلك إلى إنشاء عدة قواعد عسكرية شاملة، كان أكبرها حتى الآن قاعدة "تركصوم" في العاصمة الصومالية مقديشو، بالإضافة إلى قواعد أخرى يجري العمل عليها في ليبيا وجيبوتي والنيجر.
4- تحقيق عوائد اقتصادية أكثر توازناً وجاذبية للأفارقة
بعد طول تجربة بات هاجس الإذعان يتملك جُلّ الأفارقة، في علاقاتهم الاقتصادية مع شركائهم الغربيين بصفة عامة، ومع مستعمريهم السابقين بصفة خاصة، وهو ما دفع قادتهم الجُدُد نحو تنويع شراكاتهم الاقتصادية، والبحث عمن يحقق لهم أهدافهم التنموية، على قاعدة "المنفعة متبادلة والجميع فائزون" Win-Win Approach، بعيداً عن التبعية والهيمنة، وتلك هي المقاربة التي يبحثون عنها من خلال علاقاتهم مع الأتراك، في بناء علاقاتهم الاقتصادية في الفضاء الإفريقي.
وكان من نتائج هذه العلاقات، أن بلغ حجم التجارة "التركية-الإفريقية" أواخر عام 2022، أكثر من (40,7) مليار دولار، فيم لم يكن يتجاوز (5,4) مليار دولار أواخر عام 2003، وفي خلال تلك الفترة بلغت قيمة المشروعات، التي تضطلع بها الشركات التركية في إفريقيا، أكثر من (82) مليار دولار، فيما تجاوزت الاستثمارات التركية المباشرة في إفريقيا، حاجز الـ (10) مليارات دولار، وتتنوع مجالات التعاون الاقتصادي "التركي-الإفريقي" بصورة كبيرة، بين قطاعات الزراعة، والطاقة، والتعدين، والصناعات الخفيفة والمتوسطة، والنقل والمواصلات، والاتصالات وغير ذلك.
ويخضع التعاون الاقتصادي "التركي-الإفريقي" للتخطيط والتنظيم، عَبْر أُطُرٍ ومؤسساتٍ فعالةٍ، تعمد إلى مأسسة أوجُه ومجالات هذا التعاون من أجل تعظيم عوائده، فبخلاف مؤتمر القمة "التركية-الإفريقية" الذي انعقد لثلاث نسخ حتى الآن، ينظم مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية، برعاية وزارة التجارة التركية، وبالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي، منتدى الأعمال "التركي-الإفريقي"، والذي انعقدت نسخته الرابعة في إسطنبول في تشرين الأول / أكتوبر 2023، كما أنشأت تركيا مجالس أعمال مشتركة دائمة مع (45) دولة إفريقية.
5- الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والثقافية
لم يَغِب الجانب الاجتماعي والإنساني والثقافي، عن مقاربة الأتراك في سعيهم نحو تمتين علاقاتهم مع الأفارقة، وقد كان لهذا البُعد المعنوي بالغ الأثر، في تسريع وتيرة النفوذ التركي في إفريقيا وتعزيزه وتناميه؛ ذلك بأن المدركات السائدة شعبياً ونخبوياً، تلعب دوراً مهماً في تجسير الهُوَّة، التي أحدثها المستعمرون الأوروبيون بين الأفارقة وبين الآخر.
ففي مجال التعليم استضافت تركيا أعداداً كبيرةً من الأفارقة، للدراسة في المدارس والجامعات التركية، عَبْر مِنَح مجانية كلياً أو جزئياً، ومن ناحية أخرى توسعت وزارة التعليم التركية في إنشاء ورعاية المدارس، في كثير من البلدان الإفريقية، كما استحدثت تركيا مؤسسة "معارف"، شِبه الحكومية وغير الهادفة للربح، للعمل كجهة وحيدة مصرَّح لها بتقديم الخدمات التعليمية خارج تركيا، وبدأت "معارف" في ضم المدارس التركية الكثيرة، المرتبطة بحركة "جولن" والمنتشرة في أرجاء القارة.
كما نشطت المؤسسات التركية في المجالات الإغاثية والتنموية، ومن أبرزها: هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات، ووكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا".
وفي المجال الثقافي، أولت تركيا اهتماماً كبيراً بنشر الدين الإسلامي حول العالم، عَبْر مؤسسات متخصصة، تعمل تحت مظلة "رئاسة الشؤون الدينية التركية"، ومن أشهرها "وقف الديانة التركي"، الذي يرعى مدارس "إمام خطيب" الدينية التركية وينشرها في إفريقيا، بالإضافة إلى إقامة المساجد، ونشر القرآن الكريم، وكتب الشريعة، كما استخدمت تركيا أدوات الإعلام الأكثر تأثيراً، مثل بث الأعمال الدرامية التركية ذائعة الصيت، مترجمة إلى اللغات المحلية الإفريقية.
ثانياً: التحدِّيات التي تواجه النفوذ التركي في إفريقيا
ليس من المتصوَّر أن يكون الطريق إلى إفريقيا ممهداً وآمِناً، فثَمَّة عقباتٌ وتحدياتٌ جسامٌ، يمكنها أن تَحُدّ أو تُبطِئ من تنامي النفوذ التركي في إفريقيا، ويمكن تصنيف هذه التحدِّيات إلى ثلاث فئات: أُولاها تنبع من القدرات التركية ذاتها، وثانيتها تفرضها سياقات البيئة الدولية، التي لا تنفك تموج بديناميكية صراعية، متعددة الأطراف والمستويات والمجالات، وفي القلب منها تلك الديناميات التي تحيط بالقارة السمراء، باعتبارها منجم العالم، ومعينه الذي لا ينضب، وثالثتها تعود إلى تفاعُلات البيئة الداخلية الإفريقية.
1- ديناميات الداخل التركي
لا شكَّ في أن حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، نجح خلال عَقْدين من حُكمِه في إحداث نقلةٍ نوعيةٍ هائلةٍ، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أسهمت بشكل كبير في تثبيت دعائمه في السلطة، غير أن منافسيه السياسيين لا يكفون عن استخدام التكتيكات السياسية مثل الائتلافات الانتخابية، وعن استدعاء كل ما قد ينال من شعبيته، مثل صراع الهُوِيّات في المجتمع التركي، ولَئِنْ كان حزب العدالة والتنمية، يجيد المناورة في هاتين النقطتين، إلا أنهما تحتاجان إلى معالجة دقيقة ومستمرة، تَقِيه خطر الانزلاق الهُوِيّاتي المستند إلى الإرث العَلماني التركي، ولا يقف الأمر عند توقي خطر منافسي الداخل، بل لا بد من وضع مكائد المنافسين الدوليين والإقليميين، المتضررين من الصعود التركي في الاعتبار، فلا شك في أن نجاح القيادة التركية الحالية، في حجز مقعد متميز لتركيا ضمن النظام الدولي، وفي امتلاكها من الأدوات ما يجعلها فاعلاً مؤثراً شرقاً وغرباً، وبخاصة مع موقعها الإستراتيجي الذي يتوسط العالم تقريباً، يزيد الرغبة لدى هؤلاء، في إخفاق أو إفشال مخططات التمكين، التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية.
ويتوازى البُعد الاقتصادي مع البُعد السياسي، من حيث قوة التأثير على بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة، فالأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تضرب الاقتصاد العالمي، انتقلت بدورها عَبْر قنوات عدة، لتلقي بظلالها القاتمة، على اقتصادات كل الدول، وبالقطع منها الاقتصاد التركي، وهو ما يتطلَّب مزيداً من التدابير، التي تخفف التأثيرات السلبية لهذه الأزمات على المواطن التركي، والذي من المهم رفع وعيه بما يمكنه من فَهْم السياسات الاقتصادية واستيعابها، التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية، والنقد الموجَّه إليها، وبخاصة إن انعكست هذه السياسات على حياته اليومية.
ولا شك في أن هذه التحدِّيات السياسية والاقتصادية، وما ينتج عنها من تأثيرات اجتماعية سلبية، يمكنها تقييد قدرة النظام التركي، على مواصلة جهوده نحو تعزيز النفوذ التركي وتنميته في إفريقيا، بل والحدّ من قدرته على الحفاظ على مستوى النفوذ الذي وصل إليه.
2- التنافس الدولي على إفريقيا
في ظل الحاجات الإنسانية اللامحدودة، والموارد الكونية المحدودة، باتت إفريقيا بمواردها الهائلة، مَحَطّ أطماع القوى الدولية كبيرها وصغيرها، ويؤكد هذا النظر ذلك التداعي المحموم على الثروات الإفريقية، والمغلف في صورة قِمَم ومنتديات وفعاليات "دولية-إفريقية"، كادت تنعقد شهرياً هنا أو هناك، بحيث لم تَعُدْ تنفضّ إحداها إلا ودُعي الأفارقة إلى التي تليها، ولا شك في أن هذا الازدحام، يجعل حصول أي فاعل على نصيبٍ ما، خَصماً من نصيب مزاحميه أو فرصهم، ومن هنا أزعج صعود أسهم الفاعل التركي الوافد الجديد، الكثير من القوى التقليدية، المتمثلة في المستعمرين السابقين، والقوى العائدة أو الحديثة والأحدث، مثل روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، واليابان، وإسرائيل، والإمارات، والسعودية، وغيرها.
وهنا ننبه على أن تنامي النفوذ التركي، وبخاصة في غرب إفريقيا، بات يمثل خَصماً صريحاً من نصيب الأسد الفرنسي الجريح، بعد أن خسرت فرنسا جانباً كبيراً من نفوذها في إفريقيا الفرانكفونية، فلا شك في أن التعاون بين تركيا وكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بعد أن تحول من مجرد تعاون ثقافي واقتصادي محدود، إلى دعم سياسي وتعاون عسكري وأمني غير محدود، زاد من ألم النزيف الذي تعاني منه فرنسا في غرب إفريقيا، وبخاصةٍ أن النفوذ التركي لم يقف عند دول الترويكا هذه، والتي تحولت إلى العداء الصريح مع فرنسا، بل يوشك أن يعمّ غرب إفريقيا ووسطها، بعد التقارب الكبير بين تركيا، وتشاد، ونيجيريا، وغانا، والسنغال، والكونغو الديمقراطية، وإفريقيا الوسطى، وغيرها، مما يُعَدّ اقتحاماً جريئاً لمناطق النفوذ التقليدية لفرنسا.
ولا تقف التحدِّيات عند منافسة القوى الكبرى أو التقليدية، بل تتعداها إلى مزاحمة القوى الإقليمية الطامحة إلى حجز موطئ قدم في المضمار الإفريقي، مثل مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل وإيران، وليس أدل على ذلك مما يجري حالياً، في أكثر الأقاليم الإفريقية أهميةً واشتعالاً وتعقيداً، وهو القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، وبخاصة بعد زيادة تمركز التركي في الصومال، والتعاون الكبير مع إثيوبيا، والتقارب الحثيث مع جيبوتي، ومن قَبْل ذلك كله التقارب مع السودان، والذي أجهضته التحوُّلات السياسية والحرب الأهلية السودانية، وهو ما يفسر كثيراً من الظواهر مثل: التوتر المصري الإثيوبي التركي، والتدخل الإماراتي في السودان، والدعم الإماراتي لإثيوبيا في أزمتها الأخيرة مع الصومال و"صوماليلاند".
3- سياقات الداخل الإفريقي
أياً ما كان الطرف الآخر، لا يمكن الحديث عن استقرار العلاقات الإفريقية الخارجية، بمعزل عن الاستقرار الداخلي، ولما كانت السمة الغالبة على البيئة الداخلية، لغالبية الدول الإفريقية، تتسم بعدم الاستقرار الناشئ عن عدة أسباب، في مقدمتها الاضطرابات السياسية المستمرة، والتغييرات غير الدستورية للسلطة، كما هو الحال في بعض دول الساحل وغرب إفريقيا، والصراعات المسلحة والحروب الأهلية، كما هو الحال في الكونغو الديمقراطية والسودان، فإن التعاطي مع أوضاع كهذه، يتطلب فهماً عميقاً ودقيقاً لبِنْية المجتمعات الإفريقية، وديناميات نُظُمها السياسية، وسيكولوجية النُّخَب والجماهير وتوجُّهاتها، في كل دولة على حِدَة، مع مراعاة التغيرات التي تطرأ على ذلك كله من حين لآخر، ومن هنا يمكن القول بأن سياقات الداخل الإفريقي، تُعَدّ عوائق لا يُستهان بها، في مواجهة تعزيز النفوذ التركي في إفريقيا، ولا بُدّ من معالجتها كل بما يقتضيه.
ثالثاً: فرص تعزيز النفوذ التركي وتنميته في إفريقيا
على الرغم من جسامة التحديات، لا تزال هناك فرص سانحة وعوامل مساعدة، قد تسهم بشكل كبير في تعزيز النفوذ التركي في الفضاء الإفريقي وتنميته متى أحسن الأتراك استغلالها وتوظيفها.
1- الشروط التعاقُدية المُجحِفة
في أعقاب الانهيار السوفييتي، خلت الساحة الدولية للشركات الغربية، فراحت تفرض شروطها على الدول الأضعف، ومنها الدول الإفريقية بطبيعة الحال، وفي غياب المنافس القويّ حصلت هذه الشركات، على صفقات تفضيلية طويلة الأجل، بشروط مجحفة أقرب ما تكون إلى الإذعان لا إلى التعاقد المتكافئ، ولا تزال كثير من هذه الاتفاقيات قائمة في كثير من الدول الإفريقية، وهو ما يُعَدّ فرصةً سانحةً، تتمثل في إمكانية تقديم الأتراك شروطاً تعاقديةً عادلة، تحقق مصالح الطرفين، وتكون أكثر جاذبية وقبولاً لدى الطرف الإفريقي.
2- زيادة الوعي الإفريقي وتنامي الرغبة في التخلص من الهيمنة الاستعمارية
تنبئ الكثير من المؤشرات بأن وعياً جماهيرياً ونخبوياً، بجوهر قضايا التنمية الإفريقية ومعوّقاتها الأبرز، وهي التبعية والاستسلام الكامل للهيمنة الغربية، التي فرضها المستعمرون السابقون وحلفاؤهم، على الاقتصاد والثروات والموارد الإفريقية، أخذ في التشكل مع مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، وأن رغبةً حقيقية في التخلص من هذه الهيمنة، قد تولدت لدى النُّخَب السياسية والاقتصادية، وبخاصةٍ لدى مجموعة الشباب من القادة العسكريين الجُدُد، كما حدث في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتُعَدّ هذه الصحوة القابلة للتكرار في أرجاء القارة، فرصة سانحة يمكن من خلالها للقوى الراغبة في اقتحام الفضاء الإفريقي، أن تُقدِّم نفسها كبدائل موثوقة ومقبولة لدى الأفارقة.
3- الصورة الذهنية الإفريقية عن الأتراك
تحمل الذاكرة الإفريقية صوراً ذهنية سلبية كثيرة، عن الغرب وعن الشرق أيضاً، فالتجربة الإفريقية مع رأسمالية أصحاب الإرث الاستعماري، لم تَجْنِ إلا مزيداً من التحكم والسيطرة، والتجربة الإفريقية مع التطبيقات الاشتراكية مَلْأَى بالإخفاقات، وهو ما يُعَدّ فرصة سانحة للأتراك، لتقديم أنفسهم كنموذج تنموي ناجح، لا يحمل أي مدركات سلبية من إرث الماضي.
4- المشتركات الدينية
يُعَدّ الإسلام الديانة الأكثر والأسرع انتشاراً في ربوع إفريقيا، فلا تخلو دولة إفريقية من نِسَب متفاوتة من سكانها المسلمين، بل وهناك دول غير عربية، يكاد يكون سكانها بالكامل أو أغلبهم مسلمين، مثل السنغال وجامبيا، ولا شك في أن للدين مكانة كبيرة في نفوس الأفارقة، تجعله مُحَدِّداً مهماً في خياراتهم في شتى المجالات، وهو ما يُعَدّ ميزة تفضيلية تتقدم بها تركيا على سائر منافسيها الغربيين والشرقيين، باعتبارها رمزاً معتدلاً للإسلام السني السائد في إفريقيا.
خاتمة
من خلال التحليل السابق، وفي ضوء القراءة المتأنية للتفاعلات الجارية، في الساحة التركية، وفي الساحة الإفريقية، وفي الساحة الدولية، يمكننا القول بأن المؤشرات الأولية، ترجح في المستقبل القريب ما يلي:
على الرغم من قوة أداء الاقتصاد التركي، وملاءَمة السياسات المالية والنقدية التي تنتهجها الحكومة التركية، إلا أن جانباً من الخبراء يستشرف حدوث تباطُؤ نسبي متغير، في نمو الاقتصاد التركي خلال العامين المقبلين، ولا شك في أن مثل هذا التباطؤ، سوف يؤثر على قدرة الاقتصاد التركي، على تلبية التكلفة المرتفعة، اللازمة لتعزيز النفوذ التركي في إفريقيا وتنميته.
في ظل حالة عدم اليقين التي يمر بها النظام الدولي في الوقت الراهن، من المرجح أن يشتد التنافس على ولوج الأسواق الإفريقية، ويشتد الصراع في الفضاء الإفريقي بين القوى صاحبة النفوذ التقليدي، وبخاصة تلك التي بدأت فَقْدَ بعض من مناطق نفوذها مثل فرنسا، وبين القوى الصاعدة والوافدة، مثل الصين وروسيا وتركيا وغيرها، وهو وإن لم يَحُلْ دون استمرار تنامي النفوذ التركي، فإنه سوف يزيد من تكلفته ويُبَطِّئ وتيرته كثيراً.
وفي ظل استمرارية تفاقُم حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، التي تعاني منها غالبية البلدان الإفريقية، يُرجَّح أن يتزايد الطلب الإفريقي، على خدمات الدفاع والأمن، وما يرتبط بها من مدخلات، كالأسلحة والمعدات واللوجستيات والاستخبارات، وهو ما قد يفتح مجالات أرحب للتعاون "الإفريقي-التركي".
ومن هنا يمكننا القول بأن النفوذ التركي، سوف يواصل الترسخ والتنامي أفقياً ورأسياً في إفريقيا، لكن بوتيرة أبطأ من ذي قبل، شريطة أن يراعي صُنّاع السياسة الخارجية التركية ما يلي:
1- ترسيخ قاعدة "المنفعة متبادلة والجميع فائزون" Win-Win Approach، كأساس للعلاقات "التركية-الإفريقية".
2- تكثيف العمل على تقديم خدمات الدفاع والأمن، الفعّالة والموثوقة وما يرتبط بها، مع عدم الدخول كطرف مباشر في الصراعات الإفريقية.
3- الحفاظ على التوازُن في العلاقات الاقتصادية، ويُفَضَّل جَعْل الشروط التعاقدية أكثر سخاءً، مع مَنح بعض الميزات التفضيلية الجذابة.
4- العمل على اقتران الاستثمارات التركية، بتوطين التكنولوجيا في إفريقيا، وبخاصة في القطاعات الحيوية للاقتصادات الإفريقية، نظراً لمعاناة الأفارقة طويلاً، من الاحتكار الغربي لتكنولوجيا التصنيع.
5- زيادة المِنَح المدفوعة بالكامل للشباب الأفارقة، لبَدْء الدراسة في تركيا أو استكمالها، والعمل على استقطاب الكوادر الواعدة منهم، وبخاصة في مجالات الإدارة، والحَوْكَمة، والعلوم السياسية، والحكم الرشيد، والدفاع والأمن.
6- موالاة الاهتمام بالبُعد الاجتماعي والإنساني والثقافي للوجود التركي في إفريقيا وتكثيفه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!