ترك برس

استعرض تقرير تحليلي للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، التحديات التي تواجه أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في ظل التحولات الجيوسياسية العالمية، مع إبراز الدور المحوري لتركيا في هذه المعادلات المعقدة.

وتطرق الكاتب التركي في تقريره بصحيفة يني شفق إلى تصريحات حساسة أدلى بها مايكل فلين، الجنرال المتقاعد ومستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي، والذي يعد شخصيةً محورية لفهم كيف تنعكس الصراعات الداخلية الأمريكية على المواجهات العالمية.

ووفقا للتقرير، كان فلين، خلال فترة عمله شخصيةً معروفة حتى في تركيا، واليوم يواصل الإدلاء بتصريحات حساسة تتعلق بالشبكات العميقة التي بدأت في الانكشاف خلال عهد ترامب، وانعكاساتها على الساحة الدولية.

وألمح فلين قبل أسبوع بأن فيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية الأمريكي السابقة والمسؤولة عن الشؤون الأوروبية والأوكرانية ـ وهي شخصية مشهورة في تركيا أيضًا ـ كانت إحدى اللاعبين الأساسيين وراء محاولات اغتيال ترامب.

ويرى الكاتب التركي أن هذا التصريح يمكن اعتباره كأحد أكثر الإشارات وضوحًا تجاه "المؤسسة الحاكمة" في الولايات المتحدة. إذ إن توجيه الاتهام لشخصية تشغل أحد أكثر المناصب حساسية في وزارة الخارجية، وتُدير سياسات أوروبا والبيت الأبيض بدقة، بأن لها يدا في محاولات اغتيال محتملة ضد رئيس أمريكي مستقبلي قد يكشف للعالم خلال أشهر قليلة عن "المخطط التنظيمي" أو "الشبكة" التي تُديرها الدولة العميقة.

وتابع التقرير:

لطالما كانت محاولات الاغتيال التي تستهدف الرؤساء الأمريكيين، أو الفضائح المشابهة، جزءًا لا يتجزأ من المشهد السياسي في واشنطن، حتى أصبحت أمراً مقبولا، أو على الأقلّ غير مستغرب. ولكن عند تحليل أسبابها، غالبًا ما يتم تسليط الضوء على الديناميكيات الداخلية وصراعات السلطة. ولكن اغتيال جون كينيدي كان استثناء كبيرا، إذ كان مثالًا واضحًا على التداخل بين السياسة الخارجية وأجندات الدولة العميقة، لدرجة أنه بات يُدرَّس كنموذج لهذا التداخل.

لقد ظل كينيدي يُذكر طويلًا كرئيس كافح للحد من نفوذ تلك القوى الخفية على الدولة. ووثائق صراعاته مع البنتاغون متاحة للجميع. وبالطبع جزء من هذا التوتر كان مرتبطًا بمحاولته ترسيخ سلطته وعدم السماح بتقاسمها مع تلك الشبكات. وقرار الرئيس ترامب، فور عودته إلى السلطة، بالكشف عن الوثائق السرية المتعلقة باغتيال كينيدي، يرتبط بهذا السياق. فهو يربط بشكل ضمني بين ما حدث لكينيدي وبين محاولات الاغتيال التي استهدفته هو شخصيًا، معتبرًا أن الدولة العميقة هي العدو المشترك في الحالتين. وقد ناقشنا هذا الأمر عدة مرات.

ويُعَدّ المال أحد الركائز الأساسية للدولة العميقة الوحشية، وغالبًا ما يتم تناول هذه العمليات على أنه تعاون بين بعض فئات الطبقة الرأسمالية الأمريكية ـ مثل المجمع العسكري الصناعي ـ وبعض مؤسسات الدولة، وهذا صحيح.

في نهاية المطاف، تلتقي هذه الدائرة مع آليات تشكيل البنية السياسية للبلاد، حيث يتم تحويل المال عبر اللوبيات إلى تمويل الحملات الانتخابية وما شابهها.

ولكن البند الأثقل في هذه الميزانية هو "الحروب". إذ يتم خلق صراعاتٍ مصطنعة تدرّ أرباحا تتجاوز المليارات وصولًا إلى تريليونات الدولارات، كذلك يتم إخفاء عمليات فساد هائلة وابتلاعها من خلال "الوسطاء". وقد شهدنا أحدث تجليات هذا النموذج في النقاشات حول أوكرانيا، فيما كانت أفغانستان والعراق أمثلةً سابقةً بارزة.

إن الجدل حول من يملك مفاتيح خزائن الحزم التي جمعتها إدارتا ترامب وزيلينسكي تحت مسميات "مساعدات ومنح والهدايا" يجري أمام أعيننا. سلسلةٌ مترابطة من المصالح وإذا كُشفت القوائم، فستتضح الأسماء المستفيدة وحجم ما جنته كل جهة.

وهذه المخططات نادرا ما تتزامن مع نقطة التقاء بين "مصالح النظام العالمي المهيمن" و"متطلبات النظام العالمي الجديد". وهذا ما يجعل الوضع الحالي استثنائيا وغير عادي. نحن نعيش حالة مختلفة عن السياق التقليدي.

باختصار، إن الطبقات الاقتصادية الجديدة بدأت بالانضمام إلى اللعبة، كما أن الأنماط التقليدية للحكم العالمي بدأت تتداعى، بينما تصطدم مراكز القوة الأمريكية ببعضها البعض. وإضافةً إلى ذلك، هناك لاعبون جدد مثل الصين والهند، وربما روسيا، يشاركون في المنافسة، وهم قادرون على تهديد أو إحياء كل هذه الأنظمة.

وتستند السرعة والعنف السياسي لإدارة ترامب إلى عدم ترك أي شخص من النظام القديم الذي ذكرناه مصابًا، سواء في الداخل أو الخارج. وهذه ضرورة ناتجة عن فترة الحكم المحددة بأربع سنوات، والحاجة إلى أن يكون الرئيس القادم من صفوفهم أيضًا.

إن التحول في العلاقات الأطلسية والحاجة إلى هندسة أمنية واقتصادية جديدة هي أيضًا نتيجة لذلك. إن تعرض أوروبا والاتحاد الأوروبي إلى ضغوط هائلة تكاد تحطمها على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، تدفعها نحو البحث عن "مساحة حياة جديدة" بالتعاون مع بريطانيا وتركيا.

ويبدو أن الصيغة التي استقروا عليها حتى الآن تتمحور تقريبا حول تحقيق التنمية من خلال "استثمارات صناعة الحرب والدفاع". بمعنى آخر، يبدو أن هذا المسار هو أسرع مجال يمكن أن يستجيب للتحديات الحالية. ولهذا أعلنت الحكومات الأوروبية التي اجتمعت في لندن أولاً ثم في بروكسل يوم الخميس، واحدة تلو الأخرى عن خططها لاستثمار الأموال في هذا المجال.

وإذا نظرنا إلى باريس، نجد أن حتى هذا الحل العاجل سيستغرق عشر سنوات. وحتى استبدال الدعم الذي تقدمه أقمار إيلون ماسك الصناعية لأوكرانيا سيستغرق خمس سنوات على الأقل. ومن جهة أخرى، ونظرا لأنهم يتعاملون أيضًا مع اضطرابات اجتماعية وسياسية، ويشهدون عدم استقرار في عواصم محورية مثل برلين، فإن الخلافات والطموحات في وضع السياسات بين الدول تجعل العملية أكثر إيلاما.

وحتى لو اعتبرنا كل ذلك شؤونًا أوروبية داخلية، فإن العملية تهدد أيضًا حلف الناتو وتضعفه، وتنطوي على خطر إحداث تأثيرات تفكيكية في بعض البلدان على وجه الخصوص.

لنأخذ المملكة المتحدة مثالًا. فحتى الآن تمت إدارة ملفات أيرلندا واسكتلندا وويلز بسلاسة نسبيًا ودون أن تتفاقم الأمور، ولكن انهيار الناتو قد يفتح الباب أمام ردود فعل غير متوقعة من هذه المناطق. وعدم تمكن إيرلندا من الانفصال لسنوات عديدة لم يكن فقط لأسباب داخلية، بل كان للولايات المتحدة دور حاسم في منع تفكك المملكة المتحدة، إذ إن أي تصدع في "الوحدة البريطانية" كان سيشكل نقطة ضعف أمام روسيا وفقا لقواعد الحرب الباردة. ولكن الناتو أيضًا في طريقه إلى الزوال. فإذا لم تعد المادة الخامسة للحلف سارية، فإن العواقب ستكون جسيمة. لا أعرف ما إذا كنت قد أوضحت الأمر.

وفي خضم هذه الفوضى، تبدو تركيا – وأرجو ألا يبدو هذا توصيفاً تقليدياً – وكأنها "القطعة المفقودة" في "أحجية جيوسياسية عملاقة". وما إن يتم وضعها في مكانها الصحيح، حتى تنكشف ملامح عدة كتل جيوسياسية جديدة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!