ترك برس-الأناضول
يقول المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني أرنولد توينبي، إن "السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، كان يهدف من سياساته الإسلامية تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادة، يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين" في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
لقد كانت فكرة الجامعة الإسلامية التي عمل عليها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، أعظم مشاريع الأمة الإسلامية في عصر ما قبل سقوط الخلافة العثمانية.
وحورب هذا المشروع بقوة من الدول الغربية التي نشأ لديها مصطلح المسألة الشرقية، والذي يعني اتفاق الدول الأوروبية وروسيا على إنهاء وجود الدولة العثمانية والتي هي رأس العالم الإسلامي الذي يُعبر عنه بالشرق، وبذلك يتفتت هذا العالم الإسلامي ويكون خاضعا للحركة الاستعمارية العالمية.
هذا الحلم الذي راود السلطان عبد الحميد منذ توليه الحكم لم ينشأ من فراغ، بل كان نتيجة لقناعات تكونت على خلفية الظروف التي تمر بها الدولة العثمانية التي وصلت إلى مستوى من الضعف جعلها مطمعا للدول الغربية وروسيا، وهي دول لم تنس أن الدولة العثمانية بامتدادها في ثلاث قارات كانت تعبر عن الحضارة الإسلامية المهيمنة على جزء كبير من هذا العالم.
فما إن تولى عبد الحميد السلطنة، حتى وجد أن السياسات العليا للدولة يعمل عليها وزراء متأثرون بالغرب مؤمنون بأفكاره، ودفعوا البلاد في بدايات عهد عبد الحميد إلى أتون الحرب مع روسيا في الوقت الذي تعاني فيه الدولة العثمانية من الضعف.
وعلى إثر ذلك بدأ يقوم بإقصاء المتأثرين بالأفكار الغربية، وأدار السياسة الخارجية بذكاء شديد، واتجه لتحييد البلاد الأوروبية في النزاع العثماني اليوناني، حيث كانت اليونان ترمي إلى إعادة أمجاد الإمبراطورية البيزنطية على حساب الدولة العثمانية المسلمة.
لقد وجد السلطان عبد الحميد نفسه محاطا بتلك الشخصيات المتأثرة بالأفكار والنظم الغربية، ومن ثم كانت الجامعة الإسلامية هي فرصته لتقديم الحل الإسلامي البديل، لمواجهة التغريب.
كما أن هذه الظروف لفتت نظره إلى ضرورة التوجه إلى داخل الأمة بالإصلاح عوضا عن الاتجاه إلى الخارج للإصلاح، فقامت سياسته على تحدي الأطماع الغربية في العالم الإسلامي بتكوين كتلة إسلامية واحدة بشعور واحد وراية واحدة.
ونتيجة للعدوان اليوناني على الأراضي العثمانية، خاضت الدولة حربها مع اليونانيين عام 1897م، أدارها السلطان عبد الحميد بنفسه، وكلف أدهم باشا بشن حرب خاطفة.
وفي غضون ثلاثة أسابيع انتصرت القوات العثمانية وشقت طريقها إلى أثينا، فاستغاث اليونانيون بروسيا وأوروبا، فأرسل القيصر الروسي نيقولا رسالة تهنئة للسلطان عبد الحميد على انتصاره بالحرب، راجيا منه ألا يتقدم أكثر من ذلك تجاه اليونان، فاستجاب عبد الحميد للوساطة الأوروبية الروسية استجابة مشروطة.
في كتابه "السلطان عبد الحميد آخر السلاطين العثمانيين الكبار" يذكر المؤرخ الدكتور محمد حرب، أن الشرط الأول هو الحصول على "تساليا"، وهذا قد رفضه رئيس وزراء بريطانيا بشدة قائلا: "مستحيل أن نسمح بدخول الهلال في بلد أوروبي سبقه الصليب إليه"، فلم يتحقق هذا الشرط.
وكان الشرط الثاني حصول الدولة العثمانية على عشرة ملايين كتعويضات عن الحرب، فتكتلت الدول الأوروبية لمنع ذلك أيضا بحجة ضعف الخزانة اليونانية، وأما جزيرة "كريت" محل النزاع، فقد تم الاتفاق على أن تكون تابعة للدولة العثمانية لكن يُعين الوالي بموافقة أثينا، على أن تنسحب منها القوات العثمانية.
لم تكن هناك فائدة مادية تذكر خرجت بها الدولة العثمانية من هذه الحرب، لكنها أحدثت صدى قويا في العالم الإسلامي، ربما يكون أحد أبرز الأسباب التي جعلت السلطان عبد الحميد يقدم على اتخاذ خطوات عملية في مشروع الجامعة الإسلامية.
ففي أثناء الحرب، شكل السوريون لجانا لجمع التبرعات لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد اليونانيين، وشكلوا كذلك لجان الهلال الأحمر لعلاج جرحى ومصابي الحرب.
وكوّن مسلمو الهند اللجان لجمع التبرعات والمساعدات الطبية والمالية لصالح الدولة العثمانية، وذهب مبعوثون عن الجمعية الإسلامية في حيدر آباد إلى جريدة المؤيد المصرية، يقولون فيها: "إننا مسلمون، وجلالة السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين الأعظم، فنحن إذن من رعيته، لذلك نرى من الواجب علينا أن نلبي دعوته ونؤدي – مثلنا في ذلك مثل العثمانيين –المعونة العسكرية التي فرضها جلالة السلطان ليقوي بها جيشه الحامي لعرش الخلافة المقدسة".
وبعد انتصار العثمانيين على اليونان، انهالت على قصر يلديز مقر السلطان رسائل التهنئة من بقاع العالم الإسلامي على النصر، وقام خطباء المساجد في بلاد أواسط إفريقيا والهند والمحيط الأطلسي بزف البشريات على المنابر وشكر الله على هذا النصر.
ومما يؤثر في هذا الشأن، قيام أمير الشعراء أحمد شوقي بتهنئة السلطان بالنصر بقوله:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب *** وينصر دين الله أيان تضرب
كما قام غيره من الشعراء بنظم القصائد في مدح عبد الحميد، وأقام مسلمو شمال إفريقيا الأفراح ابتهاجا بهذا النصر، رغم معارضة سلطات الاحتلال الفرنسي هذه الاحتفالات ووصفها بأنها تعصب ديني أعمى.
وفي عيد الأضحى الذي تبع هذا الانتصار، قدمت الوفود لتهنئة السلطان من الهند ومشايخ بلاد العرب وزعماء قبائل عربية، ونقلت الوثائق قيام أحد موظفي السفارة البريطانية آنذاك، بإرسال رسالة إلى والده يقول فيها: "أثبت هذا العيد أن السلطان عبد الحميد له مكانة عظيمة ومقام رفيع بين المسلمين جميعا، كما أن محاولات الإساءة إليه فاشلة".
هذه المشاعر التي عمت أقطار العالم الإسلامي، أكدت لدى السلطان عبد الحميد ضرورة جمع العالم الإسلامي في تكتل واحد لمواجهة التحديات الخارجية، والعمل على أن يأخذ هذا التكتل دوره في التأثير على السياسة العالمية، إضافة إلى هدف مواجهة التيارات التغريبية المتأثرة بالغرب في الداخل.
ومما عمّق من فكرة الجامعة الإسلامية لدى السلطان عبد الحميد، تلاقيه في هذا الشأن مع بعض الرموز السياسية والفكرية المنادية بالجامعة الإسلامية في هذا العصر، مثل جمال الدين الأفغاني الذي التقى بالسلطان، غير أنه قد حدثت اختلافات بينهما، ومثل الزعيم السياسي المصري مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني وجريدة اللواء، والذي كان مؤمنا أشد الإيمان بهذه الفكرة.
تلك هي عوامل وظروف ولادة فكرة الجامعة الإسلامية عند السلطان عبد الحميد، والذي اتخذ بهذا الصدد خطوات واسعة قوية لتحقيقه، ولكن لهذا حديث آخر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!