مهنا الحبيل - العربي الجديد
سواء أُنجز الاتفاق النهائي بين موسكو وكييف أو لم يُستكمل وبني عليه لاحقاً، فإن المرحلة التي حققها الوسيط التركي كانت نجاحاً كبيراً للسياسة التركية الخارجية ودبلوماسيتها التي ارتبطت بالرئيس التركي أردوغان. وقبل أن تستعرض المقالة الحالَة في نقاط محددة، تشير إلى مسألتين مهمتين في سياسات أنقرة أخيرا: الأولى، حجم البراغماتية المندفعة بلا حدود في طبيعتها السياسية، وأن المعادلة الحاكمة في عقل أنقرة تجمع بين مصالح تركيا القومية ومصالح العهد السياسي الحالي الذي لم يعد مرتبطاً بحزب العدالة والتنمية فقط، ولكن بخطة الرئيس الشخصية.
الثانية، مبادرة الرئاسة بالخروج من حملات التأثير العاطفي الصاخب، وبعض القرارات التي اتضح لأنقرة (حسب تقييمها) أنها كانت خاطئة، وما سبّبته من إشكالات في واقعها السياسي الإقليمي والدولي، وتدشين خطوط اتصالاتٍ في اتجاه معاكس، وقع هذا مع الروس والأميركيين والاتحاد الأوروبي والإسرائيليين والإيرانيين والسعوديين ومصر والإمارات وغيرهم. ولسنا هنا نقدّم إشادة ولا تبكيتا، فليس المدار هو تقييم فكري، ولكنه فهم دقيق ووضع النقاط على الحروف، أمام صخب البروباغندا الساذج عن الخلافة الإسلامية العائدة في أذهان بعضهم.
ونُرتب هنا رسم خريطة التفوق التي تتقدم لها أنقرة لحصد نتائج جهدها الأخير، وكيف تسير في نجاح مركزي مهم، لو استُكمل لأصبحت تركيا في منتصف هذا العام في أفضل موقع دولي لها منذ سنوات، واستعادت كثيرا من خسائرها، وسيبقى لتجديد الرئاسة والحزب التحدّي الاقتصادي الحالي الذي قد تخدمه قواعد اللعبة أخيرا للرئيس التركي وعجز المعارضة التركية عن تقديم البديل.
أولا، عند أول الحملة الغربية على موسكو بادرت أنقرة بتلقيها بزخم إيجابي مع إدارة الرئيس الأميركي بايدن وأركان الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه، كانت أنقرة تُدرك تكلفة استفزاز الدبّ الروسي، وكارثة العثمانيين حين وُظفوا في الحرب العالمية الأولى التي ذهب ضحيتها مئات آلاف من المجندين الأتراك وبقية المسلمين، من دون أي جدوى، وكانت بما يشبه الإجماع مسمار النعش الأخير في جسد "الرجل المريض".
ثانيا، أدار الرئيس بذكاء كبير خطة الاحتواء المزدوج وفعّل دبلوماسيته وفريقه الخاص، والذي يُعتبر وزير الخارجية، جاويش أوغلو، أحد أبرز أركانه مع مهمته الوزارية، كان من الواضح أن موسكو لم تُبد قلقاً من حصيلة العتاد العسكري الذي دعمت به أنقرة كييف، كشبكة مواقف تقدّمها إلى الغرب، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على موقع توازن حيوي تتقدّم به تركيا اليوم في شرق أوروبا، وتشعر الدول المسيحية ذاتها بأن أنقرة مركز توازن عقلاني تحتاجه أمام التوحش الروسي، وأنها أكثر مصداقيةً من بعض وعود الغرب.
ثالثا، كان لهذا البعد تأسيس سابق في مواقف تركيا الإيجابية مع جورجيا وأوزبكستان، ثم مع حسم حرب الاسترداد الأخيرة لمناطق أذربيجان من أرمينيا. ولم تتوار أنقرة عن كييف بل ظلت متواصلة الجسور والتعاطف، وخطّها الساخن قائم متفاعل مع موسكو أيضاً، ويلاحَظ هنا أمرٌ مهم جداً في سبق الاختراقات.
رابعا، كان من أطول اللقاءات التي بذلتها شخصية دولية مع الرئيس الروسي بوتين، اجتماع رئيس الحكومة الصهيونية معه، والخروج منه باتفاق مبادئ مع تقريع ضمني للرئيس الأوكراني اليهودي، فولوديمير زيلينسكي، كان تقدير تل أبيب الحفاظ على مصالحها مع الروس، الشركاء الأقدمين للمشروع الصهيوني، رغم ضجيج اليسار العربي، وفي الوقت نفسه، تأمين كييف ضمن دائرة الوكالة التي تتقدّم بها إسرائيل كعقل توازن عالمي مزعوم للسلام.
خامسا، ومع ذلك، رَفضَ زيلينسكي الاتفاق وحمل على تل أبيب، ولكنه في المقابل انفتح على أنقرة ومبادرة الرئيس أردوغان. القضية هنا ليست بطولات ولا تفرد تميّزٍ، ولكنها فيما يظهر للمحلل السياسي لحظة التقاط ذكية من أنقرة في توقيتٍ حرجٍ للغاية. لكن ماذا عن الغرب؟
سادسا، لم تبعث واشنطن ولا الاتحاد الأوروبي أي رسالة سلبية إلى الأتراك، فمرحلة الفراغ التي كانت الحرب مرشّحة لدخولها، ولا يزال تهديدها قائما، تعني أن الغرب، رغم كل ما بذله وتوظيف كامل القوة الرأسمالية بما فيها إمبراطورية السوشيال ميديا، والتضييق حتى على الحقوق الإنسانية للروس، قد يخسر المرحلة الأولى من الحرب، وفي الوقت نفسه، فإن مشروعه لحرب استنزاف مع موسكو لن يربط، بالضرورة، بمواجهة عسكرية في أوكرانيا ومقاومة تصاعدية.
سابعا، وفي المقابل، ظهر مأزق الروس أيضاً من اجتياح كييف أنهُ سيكون مكلفاً، وإن كان ممكناً، لكن أوكرانيا ليست خصماً شعبياً بريئاً مخذولاً من الغرب والأميركيين ذاتهم، كالشعب السوري الذي ذُبح بمخالب الدب الأحمر، فهنا العنصرية الغربية تتاجر باسم الأشقر الأوكراني لحماية عرقها المتفوق.
ثامنا، لفَتح المجال أمام تركيا مصلحة مهمة وحيوية للروس وللغرب، كما أن طبيعة السياسة التركية وسوقها الاقتصادي المشرّع الأبواب يحتاجهما الروس بالضرورة، وخصوصا بعد اتفاقهم على فتح المصالح المشتركة في أراضي الأقاليم المسلمة لروسيا، وجمهوريات آسيا الوسطى.
إذن، الحديث هنا عن أرضية صلبة تساعد أنقرة على إنجاز الاتفاق، ووضعها في مركز بوصلة التقاطع التي يحتاجها الجميع. وعليه، الغرب اليوم مهتم بتركيا جسرا وحليفا، رغم معرفة علاقاته الخاصة مع موسكو، بل إنه يرى الرئاسة التركية الحالية الأنسب لضبط توازنه الإقليمي المهدّد في الشرق الأوسط وفي شرق أوروبا. وهذا يعني أن تركيا، في عالم التضخم الجديد والانهيارات العالمية، عَبَرت من مأزق الصراع مع الغرب.
ولذلك طلبت من جديد تفعيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وقد يُرفض طلبها، لكن مجرد إشعار أوروبا بهذا الاستحقاق أمرٌ مهم لها، وفي الوقت ذاته، هي تخاطب الإنسان التركي المتضجّر من العلاقة مع الشرق وتدفق المهاجرين، والذي يرى أن أوروبا أقرب إلى مزاجه ومصالحه منهم، وأن قوميته التركية المشتركة مع الإسلام يجب أن تحافظ على هذا التوازن الذي لا يؤثر عليه صخب الصراع الصوتي مع الغرب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس